الجزائر | هل تعكس نتائج الانتخابات البرلمانية، التي تجري اليوم في الجزائر، ميزان القوى السياسي والوضع القائم اقتصادياً واجتماعياً. وهل ستنسجم مع ميول الناس كما الشأن في البلدان الديموقراطية؟ وهل ستتمكن التشكيلة البرلمانية الجديدة من امتصاص الغضب الممتد داخل مختلف الفئات الشعبية؟ هذه تساؤلات ظلت تطرح منذ عقود في كل مناسبة انتخابية، برلمانية كانت أو محلية أو حتى رئاسية.
وفي كل مرة تؤجل الإجابة لأن الحكم الفعلي لا تباشره المؤسسات المنتخبة. فما يسمى «دوائر القرار» أو «جماعة الظل» هو الآمر الناهي لهذه المؤسسات طوال 50 عاماً من عمر التجربة الانتخابية في الجزائر المستقلة. لكن انتخابات هذه المرة قد تدخل عوامل جديدة تأخذ بالحسبان الساحة السياسية، على الأقل تلك التي تعبّر عن صوتها من خلال المشاركة في الاقتراع. فلئن كانت الجزائر لم تتغير، فإن المعطيات إقليمياً ودولياً تغيرت كثيراً ولم تُبق الانتفاضات التي شهدتها وتشهدها البلدان العربية تباعاً منذ نهاية عام 2010 مجالاً لتجاهل الواقع، ووضع خطط في الغرف المغلقة لتسيير بلد كبير بثرواته وتعداد سكانه ومساحته وتاريخه ومشاكله أيضاً. هذه المرة تدخّل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة شخصياً ست مرات منذ توقيعه مرسوم استدعاء الهيئة الناخبة قبل ثلاثة أشهر، ليطلب من مواطنيه المشاركة في الاقتراع، وقدم ضمانات بأن تكون النتائج التي ستعلن هي ذاتها التي تعكسها صناديق الاقتراع. وأعلن أن القضاء سيشرف كلياً، لأول مرة في تاريخ البلاد، على العملية الانتخابية من دون ضغط من أي طرف. وكررت هذه الدعوة مئات المرات خلال الحملة الانتخابية شخصيات حكومية وقيادات أحزاب دفعت ما يقارب 26 ألف مرشح للمنافسة على مقاعد البرلمان. مختلف القوى السياسية، بما فيها القوى التقليدية في مؤسسة الحكم، راهنت هذه المرة على إحداث تغيير واعترفت بأن أي خطأ في تقدير الموقف يمكن أن يجر البلاد إلى تطاحن جديد هي في غنى عنه، بعدما تخطت مأساة خلفت نحو 200 ألف قتيل في ظرف عشر سنوات من الاقتتال. واستحضر السياسيون بلا استثناء في خطاباتهم وتصريحاتهم الوضع الذي شهدته بعض البلدان العربية والدمار الذي لحقها جراء الصدامات ورافعوا من أجل إحداث تغيير سلمي سلس وممنهج بمشاركة كل الأطراف التي ستفرزها الانتخابات التشريعية. وستقف التشكيلة البرلمانية المقبلة على جملة من المهمات المستعجلة لتفادي الانزلاق إلى الفوضى، ويأتي في مقدمة تلك المهمات صياغة دستور جديد سيكون الخامس منذ استقلال البلاد عام 1962. وقد أدرج الدستور الجديد ضمن الإصلاحات السياسية التي أطلقها الرئيس بوتفليقة وسط لهيب الانتفاضات العربية قبل عام، لكن موجة كبيرة من الانتقادات للبرلمان المنتهية مدته وطريقة تعاطيه مع مشاريع الإصلاحات الرئاسية دفعت إلى تأجيل صياغته ليكلف بها البرلمان الجديد. ومن المهمات العاجلة أيضاً سن قوانين تفصيلية تعزز الحريات الإعلامية والسياسية بدايةً بشطب مواد من قانون العقوبات، ولا سيما تلك التي أدخلت عليه في تعديل من الحكومة والبرلمان عام 2001 وتضمنت متابعات قضائية تصل إلى حد سجن الصحافيين والأئمة والنشطاء الحقوقيين وإغلاق الصحف ووقف نشاط جمعيات. كذلك تضمنت تقنين نشاط التضامن الوطني في سياق محاربة الفقر وتوفير الشغل والسكن للجميع. وأكد وزير الداخلية، دحو ولد قابلية، الذي تشرف وزارته على الجوانب التنظيمية والأمنية في العملية الانتخابية، أن البرلمان الجديد سيكون بمثابة «مجلس تأسيسي» بمعنى أنه سيسن قوانين جديدة تحل مكان السابقة كما حدث في البلدان العربية التي نجحت فيها جماهير الغاضبين في إزاحة الأنظمة الحاكمة، ولا سيما في تونس ومصر، وهو مسعى يغني الجزائريين عن استنساخ أساليب تهييج الشارع ودفعه إلى رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». لكن تجسيد هذه «النيات الطيبة» من النظام والطبقة السياسية عموماً مرهون بنتائج الانتخاب التي تعلن صباح الغد. فالوضع هذه المرة غامض ويشبه إلى حدٍّ ما وضع ما قبل انتخابات كانون الأول 1991، حيث لا أحد قدر النتائج التي أفرزت الجبهة الإسلامية للإنقاذ حزباً مسيطراً. وحتى الآن لا مؤشر لميزان قوى معين في الساحة، وتستبعد جل التوقعات إمكانية حصول حزب أو تكتل على غالبية تتيح له السيطرة على القرار. ويسود الاعتقاد بأن تشكيلة البرلمان ستكون فسيفساء مكونة من ممثلين عن 26 إلى 28 حزباً، بدل الـ21 التي تشغل مقاعد البرلمان الحالي، نظراً إلى غزارة المشاركة ورفع عدد النواب من 389 إلى 462. وهذه التشكيلة بطبيعتها ستحوّل البرلمان إلى مجال تجاذب كبير يحتاج في كل الحالات إلى حكم يتدخل «لإصلاح ذات البين» والفصل في الأمور الخلافية، والحكم بطبيعة الحال هو الرئيس ممثلاً للنظام السياسي. برلمان مشكل من أقليات سياسية ضعيفة متناثرة هو أهم ما يريده النظام في الجزائر بشقيه السياسي والأمني، فهو يشغل حيزاً مؤسساتياً شرعياً، لكن من دون أن يؤثر في السياسة العامة، يمكنه صياغة قوانين الإصلاح، لكن بما لا يحدث اضطراباً في المناخ العام لنظام الحكم. وبما لا يدفع إلى تخطي حواجز شكلت على الدوام مواضيع مغلقة و«تابوهات» لا أحد يتعاطى معها مثل دور المؤسسة العسكرية في تحديد سياسة البلاد. وحتى في الحملة الانتخابية لا أحد جرؤ على طرح مثل هذه المواضيع، باستثناء جبهة القوى الاشتراكية، وهي أكثر الأحزاب المشاركة في الانتخابات راديكالية، التي وعد ممثلوها في مهرجانات شعبية وعبر تصريحات في وسائل الإعلام بالعمل في البرلمان على تقليص دور الجيش في السياسة، لكن تمثيل هذا الحزب لن يكون بالثقل الذي يؤثر على القرار.

الإسلاميون ثقل انتخابي يعاني التشتّت والانشقاقات





منذ عام 1991، عانى الإسلاميون في الجزائر داء التشتت والانشقاقات، فأصبحوا شيعاً وتنظيمات تتولى التصويب على بعضها، ما يقلل فرص تآلفها في ما بينها لتشكل حكومة بلون إسلامي

مراد وشريف وجمال كانوا في العشرينيات من العمر حين كان عباسي مدني وعلي بلحاج يلهبان الساحة السياسية الجزائرية أواخر ثمانينيات القرن الماضي. ثلاثتهم من بلدة «براقي» الواقعة في الضاحية الجنوبية للعاصمة الجزائر، سايروا قوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ وشاركوا في نشاطاتها، بما في ذلك الإضراب السياسي الشهير الذي تحول إلى عصيان مدني في عام 1991. في كانون الأول من العام نفسه، صوتوا لمرشح الجبهة في دائرتهم الانتخابية ففاز في الدور الأول بمقعد برلماني افتقده قبل أن يشغله بعد قرار قيادة الجيش وقف المسار الانتخابي ثم حل الجبهة الإسلامية ودخول البلد في متاهة المواجهة المسلحة. الثلاثة تجاوزوا اليوم الأربعين من العمر، وهم نموذج لما آل إليه وضع حزب فاز بانتخابات برلمانية ثم تشرد وصار أشلاء. مراد قرر التصويت هذه المرة لعبد الله جاب الله، الرجل الأقرب بين جميع القيادات الإسلامية لجبهة الانقاذ. أما شريف فاقترب من جبهة التحرير ونال المزايا وصار من أتباعها، فيما ظل جمال وفياً للنهج الراديكالي ولم يحدث أن وضع ورقة في صندوق انتخابي منذ 21 عاماً تنفيذاً لتعليمات قيادته التي تدعو في كل مرة إلى المقاطعة. ويرى جمال أن كل القوى التي تشارك في الانتخاب عميلة للنظام لأنها تفعل ذلك طعناً لجبهة الإنقاذ. وحقده أكبر على الأحزاب الإسلامية من غيرها. الإسلاميون عموماً في الجزائر شيع؛ فكل تنظيماتهم تشرذمت. ففلول جبهة الإنقاذ تمرد بعضها وتوزع على الأحزاب الأخرى واعتزل البعض الآخر النشاط، فيما بقيت قلة من الأوفياء ملتفة حول علي بلحاج ورفاقه، تظهر من حين إلى آخر وسط الاحتجاجات المناهضة للسلطة.
أما حركة «مجتمع السلم» فقد شهدت قبل نحو ثلاث سنوات انشقاقاً كبيراً أدى إلى انسحاب نواب ووزراء سابقين وتشكيلهم تنظيماً سياسياً جديداً باسم «حركة التغيير» بقيادة وزير الصناعة السابق عبد المجيد مناصرة. وحدث انشقاق في كل من «النهضة» و«الإصلاح»، وانبثق منهما تنظيمان جديدان رفعا عدد الأحزاب الإسلامية المعتمدة رسمياً إلى ثمانية، جميعها قدمت قوائم للمنافسة على مقاعد البرلمان. ويرجح أن لا تتآلف في ما بينها لتشكل حكومة بلون إسلامي لسببين على الأقل. أولهما أن معظمها مرتبط بأوساط في النظام، بل ومعظمها تأسس بإيعاز من هذه الأوساط. وثاني الأسباب، غياب شخصية ذات نفوذ وكاريزما يمكن أن تجمع الإسلاميين حول برنامج أو هدف مثلما حصل في البلدان المجاورة. فكل واحد من قادة التنظيمات الثمانية يرى أنه الأسلم والأكثر تمثيلاً للتيار الإسلامي. وكل منهم يشهّر بالآخر حتى يحسن مكانته على حسابه. ويعيب عبد الله جاب الله مثلاً على بقية الأحزاب الإسلامية، وتحديداً «مجتمع السلم» و«النهضة» مشاركتها في الحكومة واستفادتها غير الشرعية من الريع، بالإضافة إلى التبعية للقيادة العالمية للإخوان المسلمين. ومع كل ذلك يظهر تحالف «الجزائر الخضراء» بقيادة الإخوان تفاؤلاً مفرطاً، ويرى نفسه من الآن متوجاً برئاسة الحكومة. ويستند في تفاؤله إلى عاملين، أولهما داخلي، هو نقمة الجزائريين عموماً على السلطة واحتمال التصويت ضدها بسبب انتشار الفساد والظلم والقوانين المجحفة وتراجع التزام الدولة بالتضامن والتكافل الاجتماعي، وظهور الاغنياء الجدد المستفيدين من تفكيك المؤسسات الاقتصادية والخدمية التابعة للدولة، وبالمقابل اتساع رقعة الفقر لتلتهم قسماً كبيراً من الطبقة المتوسطة. أما العامل الثاني الذي يستندون إليه في تفاؤلهم، فهو موجة التغيير ذات اللون الإسلامي التي أفرزتها الثورات العربية.



ما قل ودل

وجدت عائلات المفقودين في الجزائر في الحملة الانتخابية مجالاً لإعادة التذكير بمعاناتها، بعد فشل نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في إرضاء العائلات. ففي كل يوم، يخرج المئات من الآباء والأمهات حاملين صور أبنائهم، مطالبين بمعرفة مصيرهم. ويقف المحتجون أمام الألواح الإشهارية الخاصة بالانتخابات البرلمانية، مرددين شعارات تستفسر عن أقاربهم الذين اختفوا في حملات اعتقال شملت آلافاً من الجزائريين المتهمين بالتعامل مع الجماعات الإسلامية المسلحة في تسعينيات القرن الماضي. وعلقت بعض العائلات صور أبنائها على ألواح الإشهار الانتخابية كما لو أنهم مرشحون لعضوية البرلمان.




جبهة العدالة والتنمية ستحدّد الحكومة



استبقت حركة «مجتمع السلم» (الإخوان المسلمون) ظهور نتائج الانتخابات، وأعلن مسؤولون فيها ترشيح وزير الأشغال العمومية الحالي، عمر غول، لرئاسة الحكومة المقبلة في حال كسب «تكتل الجزائر الخضراء»، الذي تقوده الغالبية في انتخابات اليوم. ودفعت الحركة بغول إلى الأضواء لكونه أبرز كوادرها حالياً نتيجة إشرافه على عدد من الإنجازات الكبرى في السنوات الخمس الأخيرة. وقام غول بأكبر حملة انتخابية وأكثرها تنوعاً من بين كل المرشحين. وأقام المهرجانات الخطابية وأدلى بعشرات التصريحات لوسائل الإعلام عن برنامج الحلف، وقدم وعوداً في لقاءات مباشرة مع مواطنين من مختلف الآفاق والأعمار والفئات في الشوارع والأسواق والمقاهي والمطاعم الشعبية. وترى «الجزائر الخضراء» نفسها في ثوب المنتصر، رغم أنها لم تجمع في انتخابات 2007 سوى 800 ألف صوت موزعة على الأحزاب الثلاثة التي تشكلها، وهي: «مجتمع السلم» و«النهضة» و«الإصلاح».
في المقابل، تداولت قيادات من جبهة التحرير والتجمع الديموقراطي، حزب رئيس الوزراء أحمد أويحيى، على استعراض القوة. وأكدت أن «الشعب الجزائري لن يختار ما يندم عليه مجدداً»، في إشارة إلى اختياره جبهة الإنقاذ عام 1991 ودفعه الثمن غالياً في حرب طاحنة أتت على الأخضر واليابس. وهو ما فسره الإسلاميون بـ«إعلان نية التزوير» على اعتبار أن الإدارة والأمن يتبعان تقليدياً للسلطة الحاكمة، ولا يمكن تصور وقوفهما على الحياد إذا ما بدا أن طرفاً من غير من يزكيهم النظام يمكن أن يفوز بالانتحاب. وبين «التكتل الإخواني» والحزبين المهيمنين على الحكومة والبرلمان السابق، جبهة التحرير والتجمع، يقف قطب ثالث قد يصنع بتحالفه الفارق لهذا الطرف أو ذاك. ويتعلق الأمر بجبهة العدالة والتنمية للشيخ عبد الله جاب الله، المرشح لأن يكون أكبر حزب إسلامي بعد هذه الانتخابات. جاب الله رفض الانضمام إلى «تكتل الجزائر الخضراء» لأنه لم يحصل فيه على مركز القائد، ففضل خوض الانتخابات منفرداً، على أن يتحالف مع من يعطيه حيّزاً أكبر في الحكومة المقبلة. وأشار في تصريحاته إلى أنه يتحالف مع برنامج، لا مع اتجاه ايديولوجي بعينه، ليبقي الباب مفتوحاً أمام كل من يريدون ثقله. كما أكد أنه يعمل على إقامة دولة القانون، لكن دون أن يحدد طبيعة القانون الذي يسيّر الدولة التي يصبو إليها، إن كان مستمداً من الشريعة الإسلامية أم وضعياً. وسبق لجاب الله أن حقق 34 مقعداً في انتخابات 1997 حين كان على رأس حركة النهضة، ثم قاد حركة الإصلاح لحصد 45 مقعداً عام 2002 واحتلال صدارة ترتيب الأحزاب الإسلامية، قبل أن ينقلب عليه رفاقه ويسحبوا البساط من تحت قدمية للمرة الثانية ويعزلوه من المنصب ومن الحزب. إذاً، الحكومة المقبلة سيفصل أمرها بين هذه الأقطاب الثلاثة «الجزائر الخضراء» و«الوطنيين» وحزب جاب الله، مع احتمال وجود دور لحزب العمال بقيادة لويزة حنون، وحركة التغيير بقيادة وزير الصناعة السابق عبد المجيد مناصرة، المنشق عن «مجتمع السلم».
وإن لم يأت عمر غول الذي رشحه الإخوان رئيساً للوزراء، فإنه سيكون أحمد أويحيى أو الأمين العام الجديد لجبهة التحرير الوطني الذي سينصّب آخر هذا الشهر خلفاً لعبد العزيز بلخادم، مهما كانت نتيجة الانتخابات، وخصوصاً أن الإصلاحات السياسية التي أعلنت قبل عام تضمنت تنازل رئيس الجمهورية عن الانفراد بالتصرف في أمر تعيين رئيس الوزراء، وألزمته بتعيين رئيس الوزراء من الأغلبية التي تفرزها الانتخابات في شكل حزب أو تكتل أو قائمة. وهو ما عمل الإسلاميون على استغلاله لحشد الدعم وكسب رهان يجعلهم على الأقل أكبر الأقليات المشكلة للبرلمان حتى يتمكنوا من قيادة الحكومة، أسوةً بما حدث في تونس ومصر والمغرب. وإذا قرر جاب الله مناصرة التحالف مع التكتل الإسلامي فستكون الحكومة باللون الإسلامي، أما في حال تفضيلهما التحالف مع جبهة التحرير والتجمع الديموقراطي، وهو أمر وارد مع أنهما إسلاميان، فسيظل الوضع على حاله مع احتلال حزبيهما مكان «مجتمع السلم» في الحكومة.

البرامج: تصويب على فشل السلطات بلا تقديم الحلول



تفنن مرشحو الانتخابات البرلمانية الجزائرية في تقديم الوعود الوردية للناخبين وإظهار الفترة النيابية الجديدة بثوب القادر على تغيير الأوضاع، في وقت تجنبوا فيه الخوض في قضايا حساسة ذات علاقة مباشرة بشغل النائب في البرلمان. ولم يقدم أي حزب من بين الـ44 المشاركة أي برنامج اقتصادي _ اجتماعي منسجم، بل أثارت الأحزاب، كالعادة، المسائل الشائكة التي أرقت الجزائريين على مدى عقود مثل أزمة السكن وضيق مجالات الشغل وتردي مستوى الخدمات وتراجع تكفل الدولة بالمحتاجين ونقص الحوافز التي من شأنها دفع الشباب والنساء إلى الانخراط في العمل السياسي لإحداث تغيير في المؤسسات. ونثر قادة الأحزاب والمرشحون هذه المشاكل في أكثر من أربعة آلاف مهرجان وتجمع شعبي وفي مئات الساعات من البث التلفزيوني والإذاعي في شكل مداخلات تبث على مدار الساعة خلال الأسابيع الثلاثة التي استغرقتها الحملة الانتخابية. وكان الطرح بشكل مطالب، كما لو أن المتحدثين نقابيون حرصاء على افتكاك حقوق من صاحب العمل وليسوا سياسيين يكافحون من أجل الوصول إلى الحكم وتطبيق برنامج مطابق أو مكمل أو مغاير لما هو قائم. وأدان المرشحون تقاعس السلطات في توفير حياة أفضل للجزائريين مع أن كل الشروط متوافرة لذلك. ورفضت الحملة الانتخابية عموماً تكديس المال العام واحتياطي العملة الذي يقارب 200 مليار دولار أميركي في البنوك الأجنبية بفوائد لا تسمن ولا تغني من جوع بدل صرفها في تجديد آلة الاقتصاد ورفع مستوى معيشة السكان. كذلك ركز المرشحون على مساعدة الدولة للمزارعين، لا تغيير السياسة الإنتاجية وطريقة استغلال الأرض بما يوفر الحاجة للاستيراد من الخارج. كذلك وجهت انتقادات للإدارة الغارقة في البيروقراطية وانتشار الفساد كالرشوة والمحسوبية حتى صار قضاء أبسط الحاجات يحتاج إلى وساطة من ذوي النفوذ والقربى والمال. ولم يسلم جهاز القضاء من النقد، ولا سيما أن الإصلاحات المعلنة على دفعات منذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة للحكم لم تغير شيئاً، بل زادت في بعض جوانبها من حجم معاناة الناس بفعل تغلغل سلطة المال لحسم القضايا القضائية. وطمس لهاث المرشحين وأحزابهم وراء أصوات الناخبين بالاعتماد على الخطاب الإغرائي السهل، قضايا كبيرة في مقدمتها هجرة الأدمغة حيث يغادر الجزائر سنوياً آلاف من العلماء والباحثين والاختصاصيين. كذلك، تجنب الخطباء الحديث عن انهيار مكانة الجزائر في المحافل الإقليمية والدولية، وكأن السياسة الخارجية لا تعني البرلمان.

المقاطعون يلجأون للاعتصامات والتهكم




المقاطعون يلجأون للاعتصامات والتهكم نشط مقاطعو الانتخابات في الجزائر هذه المرة أكثر من الانتخابات السابقة، ووظفوا الاتصال المباشر في الأحياء والجامعات والمصانع والمدارس والأسواق وغيرها من مواقع التجمع. كذلك نظموا اعتصامات للمطالبة بحقوق اجتماعية حولوها إلى مهرجانات لدعوة الناس إلى المقاطعة. وملأ المقاطعون من الشباب تحديداً، ومنهم من لا ينتمي إلى أي حزب سياسي، مواقع التواصل الاجتماعي بالطرائف والحكايات الساخرة عن النظام ورموزه وعن البرلمان. وكثيراً ما عوضت عبارة «النائب» بـ«النائم». ونال تحالف «الجزائر الخضراء» الإخواني أكبر قسط من التهكم والاستهجان، نتيجة وجود انطباع سائد بأنه انتهازي لمشاركته في الحكم 15 عاماً قبل أن يخرج منه ويعلن المعارضة لمحاولة الاستفادة من الحراك القائم في محيط الجزائر وسيطرة الإسلاميين على البرلمانات والحكومات. كذلك، تشكلت مجموعات اختصت في تغيير وجه ألواح الإشهار الخاصة بالحملة الانتخابية وعلقت على بعضها صور حيوانات. وحول بعضها الآخر إلى لوائح عملاقة كتبت عليها أسعار المواد الاستهلاكية الملتهبة، ولا سيما المواد الزراعية. ويصف كثير من المتحمسين للعملية الانتخابية هذا النشاط بـ«العبثي» و«غير المسؤول»، مطالبين بمعاقبة أصحاب هذه الحملة.
لكن قوى واسعة من المثقفين والإعلاميين وأساتذة الجامعات والنقابيين استحسنت هذا النشاط. بدورها، سايرت الصحافة نشاط المقاطعين وتابعت خطواتهم كما لم يسبق أن فعلت من قبل. من جهتها، دعت قيادات سياسية منها «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» العلماني و«جبهة الإنقاذ الإسلامية» إلى مقاطعة الانتخابات. ودافع الجبهة الوحيد لهذه الدعوة هو استمرار إقصائها من المشاركة بداعي مسؤوليتها عن المأساة التي عاشتها البلاد منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. أما التجمع، فيرى أن المشاركة في الانتخابات في الظرف الحالي يعني المشاركة في إعادة إنتاج نظام فاشل.