الخرطوم | على الرغم من تأكيدات حكومة جنوب السودان أنها لم تخسر معركة هجليج، وأنها انسحبت من المنطقة البترولية طواعيةً نزولاً عند رغبة المجتمع الدولي، إلا أن الذهول والوجوم تملّكا قطاعات كبيرة من شعب الجنوب، بعد الانسحاب من المنطقة، وخصوصاً أنهم عدّوا دخول جيش جنوب السودان الى المنطقة بمثابة نصرٍ كبير يعطيهم قوة ويعزّز من موقفهم في التفاوض مع حكومة الخرطوم في القضايا الخلافية. نصرٌ عبّر الجنوبيون عن فرحتهم بتحقيقه في الاحتفالات الشعبية العارمة التي انتظمت في ميادين وساحات جوبا، غداة إعلان السيطرة على هجليج.
أما بعد استعادة الخرطوم للمنطقة، فلم يختلف المشهد كثيراً، لكن انتقلت الاحتفالات من جوبا إلى الخرطوم، إذ خرجت العاصمة السودانية عن بكرة أبيها في تظاهرة غير مسبوقة، وهي تحتفل كذلك بالنصر واسترداد منطقة هجليج، بعد معارك قالت إن قواتها المسلحة كبّدت فيها العدو خسائر كبيرة في العدد والعتاد. هكذا حاولت جوبا تصوير دخول هجليج على أنه نصر لها، فيما رأى الشمال في استعادتها ربحاً له، ليتجاهل الطرفان الخسارة التي خرجا بها في نهاية هذه المعركة.
ففي حالة أشبه بالانتقام مما أطلقت عليه صفة عدو، أعلنت الخرطوم فور تحرير هجليج المقاطعة الاقتصادية مع جوبا، ومعاقبة كل من يثبت تورطه في ممارسة تجارة الحدود معها من الشماليين، الأمر الذي بدأ يؤثر على مواطني جنوب السودان. وتشير تقارير عالمية إلى أن الأمن الغذائي يهدد مستقبل أحدث دولة في العالم، أخذاً بعين الاعتبار أن اقتصاد الدولة الوليدة قائم بصورة أساسية على النفط، الذي أوقف ضخه وإنتاجه، لا بسبب المعارك، لكن بقرار أحادي اتخذته حكومة الجنوب هذه المرة. وقضى القرار بإغلاق آبار النفط وأنابيبه الناقلة التي تعبر به شمالاً. ويرى مراقبون أن تلك الخطوة التصعيدية تُعد أول مؤشرات الخسارة، إذ أدت الى تدهور العلاقة بين البلدين، وخصوصاً أن دولة الجنوب أرادت أن تخنق بها شرايين الاقتصاد السوداني، بالتزامن مع حالة من الاستياء التي تسود الشارع السوداني الذي يعيش ظروفاً اقتصادية ضاغطة بعد انفصال الجنوب. وبالفعل مع توقف مرور النفط، ازدادت حالة الاستياء أكثر. كما كان لتجدد الحرب مع جنوب السودان وفقد الكثير من الأرواح في المعارك المسلحة مع الجيش الشعبي أثره البالغ في ازدياد حالة الرفض للسياسات الحكومية. ويرى محللون اقتصاديون أن الخزينة المركزية فقدت الكثير بتخصيص القدر الأكبر من الموازنة للصرف على الناحية العسكرية، بينما ترى الحكومة السودانية أن إعادة هجليج من قبضة الحركة الشعبية وإعادة ضخ النفط من المنطقة كان له الأثر الإيجابي في توحيد الجبهة الداخلية والنسيج الوطني الداخلي. ووفقاً للحكومة السودانية، أدت خطوة جوبا إلى تراجع نبرة التذمر الناجمة عن استمرار موجة الغلاء الفاحش. وخرج المسؤولون الحكوميون يرددون بثقة أن المواطن لا يزال يلتف حول حكومته، رغم الإقرار بخسارة شهداء قدموا أرواحهم لبناء مستقبل الدولة، حسب وصف وزير الخارجية علي كرتي الذي عاد وذكّر بأن خسائر دولة الجنوب أكبر، إذ فقدت جوبا عناصر قتالية قوية، بجانب العديد من المقاتلات والآليات العسكرية.
لكن خسارة الجولة في الميدان الدولي التي مُنيت بها أحدث دول العالم، هي الأبرز في رأي علي كرتي الذي يعتقد بأن تجديد مجلس الأمن لقرار الإدانة الصادر عنه الشهر الماضي أكبر خسارة لدولة لم يتجاوز عمرها العام الواحد، وهي الدولة المدلّلة لدى المجتمع الدولي.
في المقابل، أصيبت الدبلوماسية السودانية بخيبة أمل، ولا سيما من حلفائها روسيا والصين، بعدما خسرت معركة التصويت داخل قاعة مجلس الأمن حيث لم تستخدم أي من الدولتين حق النقض «الفيتو» لمنع تمرير مسودة خريطة الطريق التي رفعها الاتحاد الأفريقي الى مجلس الأمن، وحث خلالها الدولتين على العودة الى طاولة التفاوض ضمن مهل زمنية محددة؟ وبررت الصين، التي تدير مصالح نفطية وتجارية ضخمة مع البلدين، موافقتها على مسودة القرار بأنها دائماً ظلت حذرة بشأن استخدام العقوبات، لكنها صوتت لمصلحة القرار لأنها قلقة من تدهور العلاقات بين جوبا والخرطوم.
ويذهب محللون الى أن البلدين خسرا الكثير بالرجوع إلى مربع الحرب. ويرى المحلل السياسي حمد الحاوي، في حديث إلى«الأخبار»، أن تجدد المعارك والخسائر في الأرواح والدمار الذي أصاب حركة الاقتصاد بشلل شبه كامل في الدولتين، يجب أن يكون من الدروس المستفادة للجانين بأنه لا بد من الجلوس للتفاوض حتى يحفظ حقوق الشعبين. وأضاف الحاوي «ليس هناك رابح في العملية التصعيدية الأخيرة، فالجنوب لم يجد ما كان يطالب به قبل دخوله هجليج، بالإضافة الى فقدانه للسلام»، منبهاً الدولة الحديثة للاستفادة من حالة التعاطف الدولية التي تجدها من الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي.
ويتفق مسؤول حكومي سوداني، رفض الكشف عن اسمه، مع الاتجاه القائل بأنه لا رابح في الحرب. فالحرب تعني تعطيل الاقتصاد في كل جوانبه، حيث توجه موارد الدولة نحو الدفاع ويحدث بطء في التنمية وتفقد الأرواح وتبتعد حركة الاستثمارات الخارجية. ويضيف المسؤول «ما دامت هناك حرب، لا نستطيع الحديث عن أرباح، رغم أن أي شعب يدفع أي شيء مقابل الحفاظ على قيمه الوطنية العليا». أما الخارجية السودانية، فكانت أكثر تحديداً للطرف الخاسر من التصعيد الأخير. ورأى المتحدث باسم وزارة الخارجية، العبيد مروح، أن الخاسر إزاء التصعيد العسكري هو دولة الجنوب. وأوضح لـ«لأخبار» أن جوبا بإيقافها إنتاج النفط قد خسرت الكثير، لافتاً إلى أن حكومة الجنوب اعتمدت على المدخرات والمنح الخارجية، في وقت هي أحوج ما تكون لتوجيه تلك الواردات إلى الصرف على البنى التحتية وقيادة عمل جاد يساعد في إنشاء البنى الأساسية للدولة الحديثة. لكنه استدرك قائلاً «ربّ ضارة نافعة، الآن اتضح لجوبا أن العمل العسكري ليس هو السبيل الى أخذ المطالب مهما كانت»، محذراً الجنوب من مغبة المضي في طريق خنق النظام في الخرطوم اقتصادياً وسياسياً.