الخرطوم | انهمك سبت وول في بيته الذي قضى فيه واحداً وأربعين عاماً من عمره، أي منذ ميلاده، يلملم ما تبقى من أغراضه استعداداً للمغادرة إلى بلده جنوب السودان. وضع حقيبة صغيرة على الأرض مشيراً إلى أنها أثمن ما خرج به من شمال السودان. أربعة ألبومات مصورة داخل الحقيبة هي حصاد ذكريات حياته التي عاشها في السودان، مرّ عليها سريعاً لكنه لم يتمالك نفسه أمام صور أطفاله الثلاثة ووالدتهم الشمالية، اذ سيغادر سبت دون اصطحابهم نظراً لأن القوانين لا تسمح لهم بدخول دولة الجنوب دون وثائق رسمية أو تصحيح أوضاع تتطلب المال والعلاقات، حتى في حال الحصول على الوثائق. ما اضطر سبت إلى أن يغادر السودان وفي نفسه أمنيات بيسر حال المال والسياسة عله يرى أطفاله وزوجته يوماً ما.
في الجانب الآخر من المنزل، تسكن أسرة صغيرة تتقاسم الدار مع سبت. رب الأسرة ياسر مكاك من جنوب السودان وزوجته آية من شمال السودان. وبعدما فقد مكاك وظيفته وجنسيته بعد الانفصال، لم يجد بداً من السفر إلى مسقط رأسه في واراب الحدودية مع الشمال. وبقيت الزوجة بين مطرقة أن تترك أطفالها يرحلون جنوباً مع أبيهم وتبقى هي مع والديها المسنين، أو ترافق زوجها وأطفالها عبر الحدود مودعةً والديها، عسى أن يكتب الله لهما عمراً تراهما فيه إذا تيسر الحالت لعودتها. فهي ستعيش في جنوب السودان دون جنسية، وظروف زوجها تحكي عدم مقدرته على نفقات الاقامة وتجديدها وشرعية الاجراءات، هذا إن وجد وظيفة في الأساس.
أوضاع أسرتي سبت وياسر ليست سوى نموذج من بعض تداعيات الانفصال التي تدفعها الأسر المختلطة منذ نيل الجنوب لاستقلاله وفشل الخرطوم وجوبا في الاتفاق على ترتيبات نهائية تسمح للأسر بالحفاظ على شملها.
وبعدما منعت السلطات السودانية، على اثر احتلال هجليج، الجنوبيين من المغادرة عبر صالات السفر الداخلية لمطار الخرطوم، احتشد المئات من أبناء جنوب السودان بسفارة بلادهم في الخرطوم للحصول على وثائق سفر اضطرارية عساها تمكنهم من دخول صالات المغادرة، وذلك بعدما أعلنت سلطات الطيران المدني فى السودان أن جميع الرحلات المتجهة إلى جنوب السودان أصبحت اعتباراً من التاسع من الشهر الماضي في عداد السفريات الدولية وتنطبق عليها كل الالتزامات التى تقع على السفريات المغادرة إلى بقية العواصم الدولية.
رانيا تومبي، المذيعة في تلفزيون جنوب السودان، أكدت أنها فوجئت مع كثير من المسافرين لأنها لن تتمكن من السفر إلى جوبا دون وثائق رسمية، حيث لا تزال تحمل جنسية البلد الذي ولدت وعاشت فيه قبل أن تسقط عنها جنسيته اعتباراً من التاسع من نيسان الماضي. وروت رانيا ما عانته في مطار الخرطوم قائلةً: «كانت هناك حشود كبيرة في المطار، تم إبلاغنا أنه ليس بمقدورنا السفر إلى جوبا، لم نكن نعرف السبب، وبعد مرور أكثر من ثلاث ساعات أخبرونا أن من يملك جوازاً بإمكانه السفر، وهذا ما لم يكن متاحاً للجميع، فعدنا أدراجنا لأننا وباختصار أصبحنا أجانب».
بدوره، تحدث بيتر، وفي صوته الكثير من الشجن، إنه سيبقى إلى حين حصوله على ما يكفي من النقود التي تمكنه من العودة إلى دياره. واعتبر أن «التصعيد الكلامي والعسكري بين الجانبين ينهي أي أمل بعودة علاقات طبيعية بينهما». وأضاف «ذهبت إلى الجنوب أحمل معي جزءاً من الأثاث ورجعت الآن لأنقل ما تبقى، كما أنني أريد الحصول على استحقاقاتي المالية من الجهة التي كنت أعمل لديها».
وكان من المقرر أن يوفّق السودانيون على جانبي الحدود أوضاعهم بعد الثامن من نيسان، حيث يصبح الجنوبيون في الشمال في عداد الأجانب والشماليون فى الجنوب أيضاً كذلك. وبذلت الأطراف مجهودات لتفادي التداعيات السلبية لتلك المفاصلة الشعبية، إلّا أن جميع الجهود باءت بالفشل بعدما اصطدم مشروع اتفاق الحريات الأربع بين البلدين، الذي كان ينتظر توقيعه بين السودان وجنوب السودان على هامش لقاء كان مقرراً أن يجمع الرئيس السوداني عمر البشير ونظيره الجنوبي، سيلفاكير ميارديت في جوبا فى الثالث من الشهر الماضي، بدخان الحرب المشتعلة في هجليج.
وعلى الأثر، أصدرت الداخلية السودانية بياناً منحت بموجبه الجنوبيين المقيمين في الشمال مهلة شهر، انتهت في التاسع من الشهر الجاري، ليوفقوا فيها أوضاعهم إما بالإقامة الشرعية أو الرحيل. وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية السودانية، اللواء السر أحمد عمر، إن حكومته ستتعامل مع الجنوبيين كأجانب فى كل المعاملات.
وفيما حسم البعض خياره بالعودة إلى الجنوب، فإن الحرب المستعرة بين دولتي السودان وجنوب السودان لم تقلل من حماسة بعض أبناء جنوب السودان للبقاء في الشمال، مؤكدين عدم خشيتهم من حدوث أي مكروه لهم رغم الروح العدائية التي عملت النخب الحاكمة في كلتا الدولتين على بثها. جون، مواطن جنوبي يزحف نحو عقدة الخامس، يقيم في إحدى ضواحي الخرطوم الجنوبية بدا غير مبالٍ بتصريحات القيادة السياسية التي تعتبر الجنوب دولة معادية للشمال. ويبدو أن السنين التي قضاها في الشمال جعلته يفهم ما وراء قول أهل السياسية. وقال لـ«الأخبار» «أنا هنا أعيش في أمن ولا أشعر بالخوف، أما ما يقوله الرئيس البشير فهو حديث غير مؤثر والغرض منه التعبئة وبث الحماسة فقط». وأضاف «أنا لا آخذ حديث الرئيس مأخذ الجد لأنني قد تعودت على مثل هذا الحديث». وفيما كانت ترشح أنباء عن احتجاز السلطات السودانية لعدد كبير من الناشطين الجنوبيين في الشمال كردة فعل على أسر حكومة الجنوب لمدنيين وجنود عند الهجوم على هجليج، اعتبر الشاب مبيور، في حديث مع «الأخبار»، أن وجود شماليين في الجنوب هو أحد الأسباب التي تبث الطمأنينة في قلبه لأن الخرطوم في حال تعرضت للمواطنين الجنوبيين في الشمال، فإن ذلك يعني أنها تعرّض مواطنيها في الجنوب للخطر. وأضاف «التهديد الذي ظل الرئيس البشير يطلقة دخل من الأذن اليمني وخرج من اليسرى»، في إشارة منه لعدم اكتراثه بما يسمعه من تهديدات الحكومة السودانية.

(شارك في الإعداد مي علي من الخرطوم)