البداوي | «كان الزلمة بالنهار يخاف يمر من هون»، هكذا يصف الحاج حسني عبد الغني، الفلسطيني المسنّ الذي لفّ الدنيا، موقع السوق الجديدة التي أوجدتها الحاجة هنا في البداوي، بين المخيم والجبل المسمى باسمها، إثر تدمير البارد، حيث كان السوق القديمة الشهيرة.
يسترزق عبد الغني اليوم من دكان سمانة وحلويات للأطفال على الشارع العام. للوهلة الأولى أخذني الظن نحو افتراض أن سنوات الرجل الثمانين قد ذهبت ببعض عقله، فراح يخلط بين لبنان وفلسطين، لكنه عاجلني بجملة، ما عادت تتردد لا في أزقة المخيمات ومكاتب فصائلها، ولا حتى في مكاتب الأحزاب اللبنانية، قال ببساطة «ألسنا كلنا من بلاد الشام»؟
لم تكن الطريق التي تمر بمحاذاة مخيم البداوي، في موقع السوق اليوم من ناحية مدخله الشرقي، تشهد حركة مرور ملحوظة. فسكان المخيم كانوا يتحركون في اتجاه آخر يفضي الى المدينة، أي طرابلس، عبر مدخل المخيم الغربي. كان ابن زغرتا أو الضنية وعكار، وحتى ابن البارد يمر عبر طرابلس، بدلاً من هذه الطريق المختصرة.
أما اليوم، فقد طبّعت حركة الناس المرور هنا، فأصبحت الطريق مألوفة، لا بل إنه ومع تهجير أبناء البارد، «عجقت» تماماً. ثم ما لبث الشارع أن أخذ يشهد ازدحاماً يتحول إلى اختناقات مرورية في أوقات الذروة، حتى إن صاحب محل لبيع الليمون أكد لنا، أن مرور السيارات لم يعد ينقطع حتى بعد منتصف الليل. ويضيف الرجل إن سبعين بالمئة من المحال التجارية على امتداد الشارع يستثمرها اليوم أبناء البارد، وعشرين بالمئة فقط من أبناء مخيم البداوي. أما اللبنانيون، فلا يستثمرون إلا عدداً قليلاً جداً من المحال هنا.
وإذ يرى صاحب محل الليمون أنه محظوظ لأن بلدية البداوي وافقت على وضعه بسطته بمحاذاة الشارع العام «شرط عدم مضايقة حركة المرور»، فإن غيره يعاني في المقابل الارتفاع المستجدّ في إيجارات المحال التجارية. فبينما كان محمد الخطيب يعيش مجاناً مع «أهلي وعمامي في بناية واحدة قبل ما نتهجر»، وكان الطابق الأول في البناية مخصصاً للمحال التجارية، يقول «هون تشتتنا»، مضيفاً: «أجرة المحل خمسمية دولار عدا مصروف الكهرباء والاشتراك والبلدية، اذا شلنا ما تدفعه لنا الأونروا (150$) كبدل إيجار شقة سكنية بانتظار استلام البيوت بعد إعمار البارد، يبقى أن أدفع مئة دولار اضافية، فيصبح مصروفي حوالى 700 دولار في أحسن الأحوال».
لم يشكُ أيّ فلسطيني ممن قابلناهم من أيّ سوء معاملة من قبل جيرانهم اللبنانيين كما افترضنا. فهم يتقاسمون وإياهم الشقق في البناية الواحدة، ولا تحدث أية مشاكل بينهم بشأن صندوق البناية وما شابه من القضايا المشتركة، «لكن، يستدرك محمد مصطفى عياش، الجو هنا جو مدينة». يقصد طبيعة العلاقات بين الناس. ويوافقه الرأي جاره (رفض إعطاء بقية الاسم) صاحب مكتبة إياد، مضيفاً إن الشغل هنا اختلف عما كان عليه قرب البارد على طريق عكار «يمكن الشغل متأثر بوضع البلد، وكل سنة لوَرا». أما بالنسبة إلى المشاكل التي يمكن أن تحدث في الشارع في مناطق مثل هذه، مكتظة بسكان مؤقتين، فيؤكد لنا ابراهيم شحرور، وهو صاحب محل عصير، أن أياً منها لا يحصل هنا، حتى في الشارع العام، حيث يبقى الناس «سهرانين حتى الحادية عشرة ليلاً».
لكن اللبناني عبد السلام غمرواي، وهو من أهالي البداوي «الأصليين»، يرى أن مبيعات محله للزهور الاصطناعية تحسنت مع مجيء نازحي البارد، لكنها عادت إلى طبيعتها بعد حين. فقد افتتح منافسون له محالاً عدة للأصناف ذاتها. «لكن المتغير الأساسي، يضيف غمراوي، أن أبناء المنطقة ما عادوا بحاجة إلى التوجه إلى طرابلس، إذ صار لدينا شبه اكتفاء ذاتي»، بل إنه يذهب للتأكيد أن منطقة البداوي أصبحت تجذب زبائن من طرابلس «لأن الأسعار هنا أرخص»، تماماً كما كان يحصل قبل تدمير البارد.
فيوم دمر مخيم البارد وسوقه، وتشتت أهله في كل الأماكن ابتدعت قريحة حكومة السنيورة وقتها، ومن باب تهدئة عاصفة الاستنكار مقولة «الخروج مؤقت والعودة حتمية». مقولة أخرى حاول أصحابها، ومنهم كاتب هذه السطور، أن يعزّوا أنفسهم بها قائلين إن هذا النزوح سيكون إيجابياً، لأن انضمام أبناء البارد إلى مخيم البداوي وجواره يضاعف عدد الفلسطينيين المقيمين شرق مدينة طرابلس، وبالتالي يفعّل تأثيرهم السياسي كمجموعة. أما أبعد الاحتمالات، فكان إمكان نقل سوق مخيم البارد التجاري الشهير إلى البداوي، بأهميته نفسها التي كانت ما قبل النزوح.
ولدى مناقشة مسارات الاحتمالات المذكورة، رأى الاختصاصي في علم الاجتماع أحمد مفلح في حديث مع «الأخبار»، وهو من المقيمين بالقرب من مخيم البارد، أن ثمة فارقاً جوهرياً بين أبناء البارد وابناء البداوي. فأبناء الأول متحدرون من أصول قروية كسعسع وصفوري وعلما، وأبناء البداوي متحدرون من أصول مدينية، كحيفا ويافا وعكا.
ثم قال إن أبناء البارد نجحوا بالعمل التجاري مع أهالي عكار بداية، بسبب تشابه البنى الاجتماعية الفلاحية. ومن هنا جاء «الموقع الريادي لأبناء مخيم البارد في الثورة الفلسطينية»، لكونهم من أبناء الطبقات الكادحة بخلاف أبناء المدن الميسورين، الذين كانوا أكثر ميلاً إلى العمل التنظيمي ضمن الأطر القيادية.
من هنا يرى مفلح أن تهجير الفلسطينيين من البارد قد يكون مؤقتاً، لكن هذا «المؤقت» الذي امتد خمس سنوات حتى الآن، وينتظر على الأقل خمس سنوات أخرى، سيُرجع إلى البارد جيلاً من الفلسطينيين بـ«سمات هجينة، فاقدة لطيبة وإخلاص ووفاء أهل القرى، من دون تمثل مهارات القيادة لدى أبناء المدن».
من جهة أخرى، وباستثناء المشاركة الجماهيرية في ذكرى يوم الأرض، التي أصيب في خلالها بعض أبناء مخيمي البارد والبداوي بجروح متفاوتة، الأمر الذي أعاد إحياء الشعور الوطني الفلسطيني في المخيمين، لم يشهد المخيمان نشاطات واسعة النطاق، فاقتصرت الأنشطة السياسية على مناسبات محددة، لم تأخذ البعد الجماهيري المعهود في أدبيات الثورة الفلسطينية.
لذلك، ضمن هذا السياق وسياقات أخرى، لم يعثر على أيّ إشارة تلمّح من قريب أو بعيد إلى وجود فلسطيني على امتداد الشارع الحافل بالمحال التجارية الفلسطينية، ما يعني أن التجاور الجغرافي لنازحي البارد مع أبناء مخيم البداوي، ظلّ مسكوناً بهاجس المشاكل والمعاناة الحياتية، محولاً أنظارهم، كالعادة الى لقمة العيش على حساب الاهتمام بالسياسة، ولذلك لم يشغل حيزاً سياسياً فلسطينياً، فكيف الحال بالنسبة إلى الجوار الطرابلسي؟