انسحبت الكاميرات. غابت فوراً عندما بدأت الدكتورة آية، ومن بعدها شهود آخرون، الحديث عن التعذيب في العباسية. الشهادات هذه المرة أمام مجلس الشعب، لكن غالبيّة الكاميرات صدرت لها أوامر بالانسحاب لأن فضح التعذيب خط أحمر.التعذيب هذه المرة على أيدي فرق تابعة للجيش. والشهادات صادمة وتقول إن هناك وحوشاً جدداً للتعذيب في ثكن الشرطة العسكرية، وفي الشوارع يصطادون ضحايا من الشوارع ويمارسون ضدهم كل أنواع التعذيب المحفوظة من أيام مبارك، مضافةً إليها توابل وبهارات تستخدم معها أسلحة حقيقية.

الضحايا جدد. فهم ليسوا سياسيين يحفظون حفلات التعذيب في أمن الدولة. ولا أصحاب تجارب سابقة مع وحوش التعذيب في المباحث الجنائية. إنهم ثوار كسروا الأقفاص وصنعوا ثورة أدخلت النظام كله في القفص، لكنهم فوجئوا بأن وحوش التعذيب يرتدون ملابس جديدة ويتجولون في الشوارع. يهددون الثوار بالذبح والاغتصاب. هذه هي الجريمة الكبرى.
نعم التعذيب هو جريمة الجرائم. جريمة تشترك فيها كل مؤسسات الدولة لتترك المواطن وحيداً وعارياً ومقهوراً في مواجهة آلة جبارة تصيبه بالحسرة والخرس والهزيمة النفسية. التعذيب في العباسية لم يكن فردياً ولا جريمة ضابط أو عسكري أفلتت أعصابه بالصدفة. إنه استكمال لمهنة نظام مبارك في أن قهر المواطن يبدأ بجسده.
هذه أخلاقيات الدولة الجبانة والضعيفة التي تدرك جيداً أنها لا تملك قوة الشرعية ولا الإقناع ولا الحق. هذا وحده دليل على أن المجلس العسكري يريد تثبيت دعائم دولة القهر قبل تسليم السلطة (إن صدقت الوعود بالتسليم في حزيران).
من أعطى الأوامر للضباط والعساكر بتعذيب وإهانة المعتصمين في العباسية؟ وهل ستمر الجريمة كما لو كنا أمام فيلم عربي قديم من أيام مبارك وفرق التعذيب الوحشي في عصره؟
جرائم التعذيب لا تسقط بالتقادم. وذاكرتنا لا تنسى. الضابط أو العسكري الذي يستفرد برجل أو امرأة ليمارس ساديته عليها أو يطبق أوامر قادته، سيدفع الثمن كما دفعه ضباط التعذيب في الداخلية الذين سقطت عنهم الحماية عندما كُشف جرائمهم، وعندما استيقظ وعي المجتمع الرافض للتعذيب في الأقسام.
الشهادات مروعة. ضرب وشتيمة وإهانة واعتداء جسدي على رجال ونساء معتصمين وأطباء وصحافيين. لا فرق عند فرق التعذيب الجديدة، التي لا نعرف متى تدربت على التعذيب أو ما هي التربية العسكرية التي تجعل أفرادها يتعاملون بهذه الوحشية مع أبناء وبنات المجتمع نفسه.
كيف تحوّل جيش مهمته الدفاع عن الوطن إلى تعذيب المواطنين؟ من الذي غسل دماغ العساكر والضباط ليمارسوا كل هذا الوحشية براحة ضمير؟
هكذا اهتز عنبر سجن طرة تحت هتاف واحد «يسقط حكم العسكر». المشهد غريب. ووفد المجلس القومي لحقوق الانسان يتعجب كيف خرج الهتاف بهذه القوة ومن أطياف مختلفة من المعتقلين، معظمهم معتقل للمرة الأولى، ويتصور أنه لن يرى الشمس من جديد. بعضهم من أهالي العباسية أو «مواطنيها الشرفاء» الذين شاركوا فرق البلطجية في ضرب المعتصمين، بعدما صدقوا الدعاية السوداء عن مجموعات وفرق من الملتحين ستهاجم البيوت وتغتصب النساء وتخطف الأطفال.
كل «مواطن شريف» من الذين صدقوا الدعاية كان عقله يتوقف اذا سألته: ليه؟
الهتاف الذي هز العنبر في طرة كان مفاجئاً للجميع، لكنه كان الذروة الطبيعية لحكايات مذهلة عن تعذيب وقسوة غير مسبوقة، لم يكن هدفها فقط كسر الروح لكنها كانت تحمل روحاً انتقامية. انتقام «غشيم» وغير مدرب كما ظهرت آثاره على أجساد المقيمين في عنبر طرة الآن.
علامات التعذيب على الأجساد رسالة لا يرسلها الجندي أو حتى الضابط الذي أصدر أوامره المباشرة، لكنها رسائل من أجهزة أكبر تعلن وجودها واستمرار دولة التعذيب.
علامات الوحشية على الأجساد وفي النفسيات وصلت إلى درجة لم يتوقعها أحد، لا بعد الثورة ولا من الجيش الذي من المفروض أنه يضم أبناء وطن واحد ولا يعتمد لا على مرتزقة ولا على أبناء طائفة واحدة. كيف يضرب الجندي جاره أو ابن بلدته بهذه الوحشية والإهانة؟ كيف انتقلت أساليب التوحش بكل ذكوريتها من التحرش الجنسي إلى التهديد باغتصاب الرجال لوضع العصا في المؤخرات؟ هل هذه وسائل انتقلت من الشرطة المهزومة إلى الشرطة العسكرية؟ أم أنها كانت موجودة ولم يعلن عنها؟ من أصدر الأوامر بحفلات التعذيب في مقارّ أصحاب القبعة الحمراء؟
التعذيب يكشف عن تغيير في العقيدة القتالية للجنود، كما ورد في شهادة الدكتورة آية وشهادات أخرى يجب ألّا تمر مرور الكرام. لأن التعذيب ليس هواية ضابط سادي يتلذذ بتعذيب الآخرين، أو عدوانية من عسكري مقهور فقط، لكنه آلية للحكم بالقهر. وهذا يعني أن حفلات التعذيب ليست سوى مقدمة لقهر جديد. الضابط السادي ليس إلّا حلقة في آلة أمنية جبارة تعيد المواطن الى موقع الضحية الخرساء. وتعيد سلطة القوى الخفية أو الدولة العميقة إلى نفس قوتها.

قوافل الختان بالمجان تمنح التخلف بريقاً جديداً




يسألونك إذاً عن قوافل الختان التي أرسلها حزب الحرية والعدالة إلى محافظات الصعيد. قوافل طبية، لكنها تقدم خدمة جديدة تماماً: الختان بالمجان. وبعدما كانت العملية سرية وتُعَدّ جريمة، ها هي طليعة حزب الغالبية تفرضها واقعاً. وكما ظهر الحزب من عالم المحظور يعود الختان بعد حرب المجتمع عليه باعتباره جريمة موروثة من القرون الوسطى. الحزب يحمل النظرة الريفية للأخلاق ويلعب على جماهيريتها بإظهار أنها من الدين رغم أنها عادة. لكنها ترتفع هنا إلى مصاف الدين بما أنها تتعلق بجسد المرأة. قافلة الحزب الخارج من عباءة الإخوان ترمم شعبيتها بعد فشل سياسي، فتعود لعبة نشر الخجل من الذات والشعور بالذنب. الإخوان عادوا إلى لعبتهم السهلة وخلعوا المعاطف الثقيلة لتبدو أدوارهم الأقرب لهم: ممثلو الأخلاق القديمة ورُسل البورجوازية ذات الأصول الريفية.
محمد مرسي، مرشح الإخوان للرئاسة، وجد مخرجاً مضحكاً عندما سئل عن رغبة الإخوان في تعديل قانون الختان. قال مرسي: «أنا مع ترك الأمر للتفاهم بين الأم وابنتها». أي إنه ترك سلطة الأم في مواجهة طفلة صغيرة لتعيد إنتاج عادة موروثة من المجتمعات البدائية في أفريقيا ارتبطت بمحاولة السيطرة على قوة المرأة السحرية. تلك القوة التي تخيلت الثقافة البدائية أنها كامنة في منطقتين.
الأولى هي الشعر (وهو سر فرض الحجاب). والمنطقة الثانية هي العضو الجنسي. الذي لا بد من ذبحه لكي يُسيطَر على المرأة. فالنشوة عند المرأة داخلية ترتبط بقدرتها على المتعة. أما النشوة عند الرجل فهي خارجية ترتبط بالأداء. والخوف دائماً من اهتزاز أداء الرجل واستمرار قوة المرأة.
يتحول الخوف إلى قرار بحرمان المرأة الاستمتاع وتحويلها إلى «طبيخ بارد» حتى لو وضع على النار. والحرمان يكون بقسوة الانتقام. انتقام الرجل والمرأة على السواء. الرجل يريد شهادة ضمان. والمرأة تعيد إنتاج مشهد التعذيب الوحشي عندما تقترب الشفرة وهي تقطع جزءاً من جسم بنت على أعتاب بهجة الحياة. جرح عنيف. يمنع المتعة الكاملة إلى الأبد. ويحول المرأة إلى تمثال بارد يغطي نهراً ساخناً.
المرأة في مصر تذهب إلى القبر من دون أن تعرف الأورغازم. والرجل يتزوج أكثر من مرة ولا يعرف الجنس. يظل يطارد خيالات في ذهنه. يشتريها من بيوت المتعة الرخيصة. ويقلب عنها في قنوات البورنو. وكلما ابتعد عن لمس المتعة الحقيقية، وجه قوته باتجاه جسد المرأة يرجوها في البداية أن تغطي شعرها. ثم تتسع قطعة القماش لتصبح خماراً وتتسع أكثر لتصبح نقاباً. تشحن المرأة كل فتنتها لتظهر في عينين بهما كل القوة والإغراء المتفوق أحياناً على إغراء الجسد العاري.

ما قل ودل

كلّما غطى الرجل المرأة ازدادت الجرائم الجنسية والأمراض النفسية المتعلقة بالجنس. وترتفع درجة هستيريا. هكذا يطمئن الرجل فقط عندما يذبح عضو المتعة في المرأة. يذبحه وهو يتصور أنه مصدر الشرور والهياج الجنسي، وأن المرأة إذا لم تذبحه فسيصيبها مس من جنون الجنس. وهذا هو الوهم الكبير، فـ 9 في المئة من بائعات الجسد في مصر مختونات. والخطيئة تتحرك من المخ. لا من قطعة لحم تترك في ذاكرة الطفل صورة تجعل الجنس مرعباً لا ممنوعاً فقط. القافلة وصلت إذاً لتمنح التخلف بريقاً جديداً.
(الأخبار)

تشريع الدفاع عن التحرش



كان من الممكن أن تكون بسهولة امرأة مجتمع محلي مدهشة، تساعد على ترتيب الجمعيات المنزلية وتقوم بدور في مصالحات الجيران. لكنها في البرلمان تشارك في هندسة القوانين والتشريعات. السيدة عزة الجرف تحت القبة بمعجزة، وعليها أن تؤدي دوراً في إرسال بطاقات تهنئة إلى كل رجل في مجتمع يفتقر إلى العدالة بأنها ستعيد إليه السلطة المفقودة. فهي ستحمل كل خطابات الذكور المريضة لتكون مصدر إلهام المشرِّع، فتقول مثلاً إن التحرش الجنسي سببه ملابس النساء المثيرة. وبهذا المعنى ستنشر أفكارها العظيمة فتكون السيارات الجميلة سبباً في سرقة السيارات، وقصر رئيسها الكتاتني مطمعاً للصوص والهجَّامة، لأنه يستفز المحروم بيتاً ويعيش في المقابر.
ورغم أنه أحياناً تُباح السرقة للجائع والمحروم، لا تحتاج جريمة التحرش إلى محفِّز خارجي، ولا فرق هنا بين من ترتدي الحجاب والنقاب أو الجينز. المتحرِّش هو منفلت يبحث عن مسرح لانفلاته. أما السيدة الجرف فهي التعبير الحيّ عن فقدان قانون يرسم العلاقة بين الفرد والجماعة، وبين الفرد والسلطة. هي ابنة المنطق الذي يطارد به الشباب فتاة في الشارع؛ فهم طامعون فيها، لكن قبل ذلك يقومون بتعريتها من حقها ويمارسون عليها رقابة أخلاقية تضعها في خانة «المثيرات جنسيّاً»، ويحق عليها العقاب.
يمكن المتحرِّش أن يرى كل النساء عاريات في رأسه. هذه أمراض لا تتعلق بنوع الملابس، لكنها بنوع من التفكير تعبّر عنه السيدة الجرف، كما لم يعبّر أحد من قبل تحت القبة، فهي تجسيد لهذه القيم عندما تصل إلى السلطة.
القيم المساندة للتحرش وصلت إلى السلطة، وأصبحت في موقع التشريع، وهذا هو الانقلاب الخطير. فالمنسحق تجاه السلطة يشرِّع الآن لحماية السلطة. عندما تكون ذَكراً، بدلاً من مواجهة هوسه بالنساء، تجد من يبرر له جريمته، وعندما تكون ممثلة بضباط وعساكر الشرطة والجيش، بدلاً من أن تجد تشريعات تحمي الفرد من جبروتها، تجد من يقول إن المتظاهر هو الذي استفزهم.
المشكلة أن السيدة عزة في المكان الخطأ. الجرف مخلصة لتربيتها في ماكينة قهر الناس باسم الفضيلة والأخلاق، ولا نعرف من أين أتت السيدة المَصون بالقدرة على اتهام كل ضحايا التحرش الجنسي بارتداء ملابس مثيرة.
المتحرِّش يقول تبريراً إنه مسكين لأن الفتاة أغرته، لكن الجرف جعلته فلسفة كاملة وأحكاماً وحكمة، كما فعلت عندما طالبت بالكشف عن صحيفة الحالة الجنائية للشهداء لتحديد من يستحق رفع قيمة التعويض.