أكثر من خمسة عشر إضراباً مفتوحاً عن الطعام خاضتها الحركة الفلسطينية الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي على مدى نحو 45 عاماً من عمرها، الذي تعود بدايته الفعلية إلى عام 1967. القرار بخوض «إضراب استراتيجي»، كما يسميه الأسرى تمييزاً له عن الإضرابات الجزئية التي يخوضونها طوال الوقت، اتخذ عن سابق وعي بحجم المعاناة والخطر اللذين ينتظران المشاركين فيه، إلا أنه في الوقت نفسه قرار الضرورة التي تفرضها معاناة من نوع آخر يعيشها الأسرى على قاعدة يومية ومتراكمة.
الشروط المعيشية في معتقلات «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» لم تكن يوماً وليدة التزامٍ بمبادئ حقوق الإنسان، وإنما نتاج جدلية صراع مستديم بين كتلةٍ بشريةٍ عزلاء اختارت عن سابق إصرار درب النضال من أجل الحرية وكرامة العيش، وسلطة احتلال ترى في وجود هذه الكتلة وراء القضبان محطة على طريق استكمال ممارساتها القمعية. وفي عالمٍ يتواطأ مع الاحتلال بصمت للتغطية على جرائمه، من الطبيعي أن لا تخرج أنباء هذا الصراع إلى الضوء إلا عند المنعطفات الكبرى التي يفرض فيها الأسرى أنفسهم على جدول الأعمال المحلي، فالإقليمي من خلال إعلان الخوض في حرب إرادات، سلاحهم فيها أمعاؤهم الخاوية.
سلاح استخدم للمرة الأولى عام 1969 في إضراب عن الطعام بسجن الرملة استمر أحد عشر يوماً، لتكرّ السبحة بعده بمعدل إضراب كل ثلاث سنوات تقريباً، تمحورت غالبيتها الساحقة حول عنوان وحيد هو تحسين الظروف الحياتية داخل المعتقلات بما يتلاءم مع الكرامة الإنسانية للمعتقلين. وإذا كان هناك مِن الرعيل الأول للأسرى مَن لا يزال يذكر كيف كانت سلطات السجون في سبعينيات القرن الماضي تفرض عليهم عمل السخرة في خياطة «شوادر» الدبابات والخيم العسكرية، وكيف كان ممنوعاً عليهم التحدث مع بعضهم البعض في ساحة المعتقل، أو كيف كان السجانون يتعسفون في معاملتهم، فيطلبون منهم مثلاً إشعال السجائر لهم مقترناً بعبارة «أمرك سيدنا»، فإن ما لا يغيب عن الذاكرة أيضاً هو أن آلام الجوع التي كابدها هؤلاء في الإضرابات المتعاقبة هي التي أسست لواقعٍ تراكمت فيه الإنجازات، بدءاً من السماح باستخدام الملعقة في تناول الطعام وانتهاءً بما يطالب به الأسرى في إضرابهم الحالي.
وما بين البداية والنهاية، سجل التاريخ النضالي للحركة الفلسطينية الأسيرة محطات مشرقة، عُمّد بعضها بالدم، كإضراب سجن نفحة عام 1980 الذي استمر 32 يوماً واستشهد فيه ثلاثة أسرى (هم راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحاق مراغة) أثناء محاولة إدارة السجن حقنهم بالسوائل عبر أنابيب أقحمتها في أنوفهم. وفي أوساط الأسرى، يُعد هذا الإضراب الأشرس والأكثر ضراوة نتيجة الحملة القمعية المتمادية التي شنتها مصلحة سجون الاحتلال لإفشاله بدافع الخشية من أن نجاحه سيشكل سابقة يُبنى عليها في المستقبل. إلا أن إرادة الأسرى ودماء شهدائهم أكسبتهم المعركة، فتم تحقيق عدد من الإنجازات، بينها الحصول على أسرّة للنوم عليها (كان النوم قبلها على الأرض) والاعتراف بالحياة التنظيمية للأسرى وما يتفرع عن ذلك من حقهم في تمثيل أنفسهم أمام إدارة السجون عبر ممثلين يحددونهم هم. المحطة الأبرز بعد نفحة، كانت إضراب سجن جنيد عام 1987، الذي استمر 20 يوماً وتمكن الأسرى عبره من تكريس حقهم في زيادة ساعات التعرض للشمس والإفادة من الراديو والتلفاز. إلا أن «أم المعارك» بالنسبة إلى الأسرى كانت الإضراب الشامل الذي خاضوه في أيلول 1992 بناءً على تخطيطٍ عابر للمعتقلات استغرق شهوراً وأفضى إلى مشاركتهم جميعاً (نحو سبعة آلاف أسير) بتوالٍ منسّقٍ سلفاً، ما أكسب الخطوة زخماً كبيراً، سرعان ما امتد إلى خارج السجون ليشعل حراكاً شعبياً في الشارع الفلسطيني، سمته وسائل الإعلام الإسرائيلية في حينه «انتفاضة الأسرى». وخلال أيام الإضراب السبعة عشر، استشهد سبعة عشر فلسطينياً في المواجهات مع قوات الاحتلال في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، توّجهم استشهاد أحد الأسرى المضربين (حسين عبيدات) جراء اشتراكات صحية أصابته في آخر أيام الإضراب. وكان أبرز الإنجازات التي انتزعها الأسرى في هذا الإضراب حقهم في احتضان أطفالهم لخمس دقائق أثناء زيارة أهلهم لهم، إضافة إلى حقهم في استكمال الدراسة الأكاديمية بالمراسلة وحقهم في الاستعانة بالمراوح اتقاءً لحر الصيف داخل الزنازين.
وقد كان واضحاً لدى الحركة الأسيرة أن هذه الإنجازات المهمة ستبقى في بؤرة المواجهة القائمة بينهم وبين إدارة سجون الاحتلال التي لم تستسغ يوماً هذا الانكسار أمام إرادة الأسرى، الأمر الذي وجد ترجمته العملية لاحقاً بالعمل المنهجي من قبل هذه الإدارة على سحب عدد كبير من هذه الإنجازات وتجويف بعضها الآخر، مستغلةً مناخاتٍ وظروفاً سياسية مساعدة. وهكذا وجد الأسرى أنفسهم مع مطلع الانتفاضة الثانية عام2000 في مسار انحداري ازداد مع الوقت سوءاً لينتهي بتوجيه عدد من الضربات القاسية لهم اتخذت القرار بها الحكومة الإسرائيلية نفسها بخلفية الابتزاز والضغط ضمن سياق مفاوضات التبادل على أسيرها لدى المقاومة الفلسطينية، جلعاد شاليط.
وانسجاماً مع واقعهم التنظيمي، تعمدت قيادات الأسرى لدى اتخاذ قرار مبدئي بالإضراب المفتوح عن الطعام إلى تعيين لجنة خاصة تكون مسؤولة عن الإعداد للإضراب وتحديد المطالب وجدولتها بناءً على معايير أهمية متفق عليها. كما تعمد هذه اللجنة، التي يطلق عليها اسم «اللجنة النضالية»، إلى تحديد الأسقف الضمنية التي لا ينبغي التنازل عنها أو فك الإضراب دون تحقيقها. وبعد إعلان الإضراب، تكون هذه اللجنة مسؤولة عن قيادته والتفاوض مع إدارة مصلحة السجون باسم الأسرى، على أن يناط بها الصلاحية الحصرية للإعلان عن إنهاء الإضراب.
ويدرك من خاض تجربة الإضراب المفتوح عن الطعام أن اتخاذ القرار بخوضها لا يمكن إلا أن يكون ذا طابع استشهادي، برغم آليات الرقابة الصحية التي يُخضع الأسرى أنفسهم لها، وهي آليات تقوم على ضوابط سلوكية دقيقة يُطلب من الأسرى مراعاتها خلال إضرابهم حفاظاً على سلامتهم الصحية لأطول فترة ممكنة. وأهم هذه الضوابط الحرص على تناول جرعات دورية من الملح للحؤول دون حصول تعفن في المعدة وانخفاض ضغط الدم إلى مستويات خطيرة، وكذلك الإكثار من شرب الماء حتى تبقى نسبة السوائل في الجسم بمستواها المقبول. ولا يقل أهمية عن ذلك الإقلال من الحركة للاحتفاظ بالاحتياطي من السعرات الحرارية داخل الجسم، وتجنب القيام بنقلات حركية سريعة تؤدي إلى الإصابة بالدوار وفقدان التوازن. بيد أن هذه الإجراءات جميعها، لا تقي المضرب عن الطعام معاناة التعايش مع رائحة العفن التي تنبعث من معدته عبر فمه ابتداء من اليوم الخامس للإضراب، ومكابدة آلام حادة في المفاصل، يرافقها شعور متنامٍ بالوهن وتلاشي الإحساس بالجوع مع انطباق المعدة على نفسها. ومع مرور الوقت، تبدأ أعراض أخرى بالظهور، مثل حصول هبوط حاد في الوزن بعد انتهاء الأسبوع الأول، ومشارفة مخزونات الجليكوجين الموجودة داخل الكبد والعضلات على النفاد ابتداء من نهاية الأسبوع الثاني.
ووفقاً لمعاينات طبية، فإن المضربين عن الطعام يدخلون في أسبوعهم الخامس مرحلة جديدة من الخطورة تتمثل بحصول شلل متطور في عضلات العينين تتضرر بنتيجته الرؤية وينشأ إحساس حاد بالزوغان مع بدء الشعور بصعوبة في ابتلاع الماء. وفي الأيام التالية، يبدأ تدخل الحواس في حالة من التبلد والوهن الشديد تمهيداً لتلاشيها بالتدريج، وصولاً إلى فقدانها شبه التام. بعد ذلك تنشأ حالات من النزف الداخلي ويبدأ النزاع مع الموت.
ولا يحدد الطب فترة دقيقة لقدرة الإنسان على البقاء من دون طعام. إلا أن التوثيق الطبي للإضرابات عن الطعام في العصر الحديث تفيد بأن الإنسان المعافى، الذي يتمتع بوزن متوسط وهو في مقتبل العمر، قد يبدأ بفقدان وعيه في اليوم الخامس والخمسين من الإضراب عن الطعام ليدخل ابتداءً من اليوم الستين في مرحلة الخطر الداهم على الحياة. ووفقاً لمعطيات إحصائية، فإن من المستبعد جداً أن يتمكن المضرب عن الطعام من اجتياز اليوم الخامس والسبعين على قيد الحياة.



بوب ساندز


حتى ما قبل الإضراب الحالي للأسرى الفلسطينيين، كان الرقم القياسي للإضراب عن الطعام محفوظاً للمناضل الإيرلندي، بوب ساندز (الصورة).
الشاعر والقيادي الشاب في الحزب الجمهوري الإيرلندي دخل التاريخ البطولي لحركات التحرر من أوسع أبوابه حين قاد إضراباً مفتوحاً عن الطعام في السجون البريطانية. طالب ساندز، 27 عاماً، بالتعامل معه ومع زملائه كسجناء سياسيين لا كجنائيين، وبدأ تحت هذا المطلب إضراباً عن الطعام في أول آذار عام 1981، استمر 66 يوماً، فارق الحياة بعدها. واصل زملاؤه الإضراب وتوفي تسعة منهم على التوالي، قبل أن يُعلن فك الإضرب في 3 تشرين الأول إثر تجاوب الحكومة البريطانية مع مطلبهم. تحول ساندز في وفاته إلى أيقونة في المسيرة التحررية لحزبه وحضر جنازته أكثر من 100 ألف شخص.
يذكر أن الأسيرين ثائر حلاحلة وبلال ذياب يدخلان يومهما السابع والسبعين في الإضراب عن الطعام.