غزة | هل تفهم الأشياء المعدنية مذاق الحنين؟ لعلها تفعل، على غرار طنجرة الضغط التي حدث ان اشترتها عائلة الساعي الفلسطينية من أسواق مدينة غزة، عاصمة القطاع، قبل ثمانية وعشرين عاماً بالتمام والكمال. كانت تلك الطنجرة يومها، كما كانت التلفزيونات أول اختراعها، مصدر فخر العائلات التي استطاعت اقتناءها. ومع ان عائلة الساعي لم تكن من الميسورين، الا ان اقتناء الطنجرة، ولو لأسباب تجارية اقتصادية بحتة، كان مصدر اعتزاز. هكذا، استحق الحدث ان يخلد.. فأصبح للطنجرة الثمينة صورة التقطت لها برفقة العائلة بكامل افرادها يوم شرائها.
وحين حلّ أوان الرحيل بغية زيادة الرزق، ارتحلت الطنجرة بالطبع مع العائلة إلى مدينة طولكرم، حيث دهمتهم الحياة بمصاريف اكبر.
ومع انهم هناك منذ وقت طويل، الا ان الطنجرة اصبحت في ذاكرة العائلة صنواً لأيام البحبوحة في غزة، كلّما تشوقت لها، ركبت ربة المنزل الطنجرة على النار، او فتش افراد العائلة عن الصورة العجيبة الغريبة وقلّبوها امام أعينهم وهم يبتسمون ويضحكون.
والصورة التي نتحدث عنها هنا قديمة، بهتت ألوانها بعد ثمانية وعشرين عاماً فقط، وهو عمر قصير لتبهت فيه الصور عادة. لكن ربما كان السبب ان الصورة التقطت بكاميرا من جيل «بولارويد» التي تتمتع بميزة التظهير الفوري التي كانت قد شاعت وقتها، وهي بالتالي من جيل الطنجرة نفسها. هكذا، تنظر الى الصورة فتجد أن بطلتها الحقيقية، وهي لذلك تتوسط مشهدها، الطنجرة المعدنية: ثقيلة لامعة، لها أذنان بلاستيكيتان سوداويتان صغيرتان وغطاء معدني محكم الاغلاق، يتوسط الغطاء صمام يطلق البخار الذي يسمع هسيسه منبئاً بقرب نضج الطعام. اما العائلة، فقد تحلقت حولها، ووضع الأولاد ايديهم فوق الغطاء، فيما وضع الاهل ايديهم فوق اكتاف الأولاد. «أنا وعائلتي والطنجرة»، هكذا كتب سامي (32 عاما) أسفل الصورة بخط صغير. كان عمره آنذاك أربعة أعوام، لم يكن يعي سر تلك الطنجرة، ولماذا التقطت الصورة، أو على الأقل ليشرح لنا سر ابتسامته أثناء امساكه قبضة الطنجرة بقوة، وكأنّه يمسك كنزاً ثميناً للغاية يخشى انفلاته من يده. فقط كل ما كان يعلمه أنّ تلك الطنجرة اشتراها والده الذي كان بائعاً للحمّص والفول، أثناء إقامة العائلة في غزة.. واحتفالاً بشرائها التقط العم سامر، اي والده، هذه الصورة.
نسأله: وما الذي يستأهل في شراء طنجرة ضغط كل هذا الاحتفاء؟ يضحك سامي فيما يتصدى والده للإجابة. يقول بلهجة فيها الكثير من الفخر انه اشتراها، «يومها هه» يقول كمن يذكرنا، بمبلغ «وقدره خمس وعشرين دينار». ينظر الى اعيننا فيرى اننا لم نفهم ما الذي يعنيه هذا المبلغ وقتها، فيضيف: «كان هذا المبلغ بيعيش عيلة لشهر.. يعني كان معاش موظف بغزة اياميها».
يتبدّل مزاج ابو سامي كثيراً لذكر اسم غزة. فجأة يغلب عليه حنينه لملاعب صباه هناك، فتتهدج نبرة صوته مستذكرة أحبّاءه وأقرباءه وآخر مرة تمكّن فيها من دخول المدينة التي تحمل اسم القطاع المحاصر. وحيناً آخر يعود مبتسماً وهو يستذكر أولى طبخات الفول بالطنجرة المعجزة التي وفرت عليه الكثير من الوقود، وبالتالي ملأت جيبه بدنانير إضافية. لكن ما لم ينس طعمه ولا يزال «تحت اضراسي» كان اول «أكلة دجاج محشي طبخناها بالطنجرة.. أووووه. كانت على كيف كيفك»، يقولها بسعادة. سر سعادته تلك توضحه لنا أم سامي «القصة انو الدجاج العتاقي ما كان يستوي الا بعد ساعة ونص سلق، وبهيك كان بيسحب جرّة الغاز كلها (قارورة الغاز)، ويمكن مايستوي كمان. بس بالطنجرة هاي، صارت تخلص بنص ساعة».
تفتح ذكرى تلك الوجبة، التي لا تزال تذكر انها دعت اليها عائلة شقيق زوجها ووالدته، شهيتها للماضي: تبتسم حالمة وهي تعود الى «تلك الأيّام الغوالي»، متهجئة أسماء مناطق أحبتها مثل «الشيخ عجلين» والبحر .. مدرستها، الشارع الطويل الذي يصل بين بيتها والمدرسة، الجيران.. تحكي عن عربة حنطور، كما يشاهد حتى اليوم في شوارع القطاع، يجرها حصان، وقد زينت بالبالونات. كانت تركب مع رفاقها، في فسحة يوم العيد، يتنزهون بالحنطور وهم يغنون ويصفقون على عادة اطفال الحواري: «طيري وهدي/ يا وزة/ ع بواب غزة /يا وزة». تبتسم للأغنية وتهز رأسها، ثم تقول انها ايضا تحب طولكرم حيث تقيم الآن ومنذ وقت طويل. فهذه المدينة ألفتها، وقد تزوج أبناؤها من بناتها، وأنجبوا هنا.. ولم يعودوا يرغبون في مغادرتها والعودة إلى «ديارهم» في غزة، بعد كل هذا الوقت. خلص اصبحوا هنا، عائلاتهم هنا، وطفولتهم، كما كانت طفولتها هناك، هنا. ما يربطهم بالمكان تفاصيل حميمة مغرقة في بساطتها، ولكنها تجعل من المكان وطناً.
ما زالت هناك أشياء كثيرة تفتقدها عائلة الساعي منذ ارتحالها من غزة إلى مدينة طولكرم. وكلّما وقع في سمع أحد أفرادها اسم غزة، فتّحت مغارة الذكريات على آخرها، وتسابقوا الى روايتها. وهناك دائماً من يقوم ليحضر البوم الصور، متوقفاً دائماً عند صورة البولارويد نفسها: «أووووه»، تقول ام سامي وهي تضحك للصورة الكوميدية: «معدنك أصيل يا طنجرة الضغط».



تدهور المستوى المعيشي لأبناء القطاع كثيراً على دفعات منذ أيام «طنجرة الضغط». لجأت العائلات إلى استخدام المدخرات والقروض أو الاعتماد على المساعدات التي تقدم من وزارة الشؤون الاجتماعية أو من مصادر أخرى، كالجمعيات الأهلية والمؤسسات الدولية، وذلك بسبب التقلبات التي طرأت على العوائد والدخل لضمان مستوى معيشي مشابه لما عاشوه، وخاصة قبل الحصار. يشار إلى أن المزارعين هم الفئة الأكبر التي تتكبد الخسائر في المجتمع الغزي، بسبب عدم استطاعتهم تصدير محاصيلهم الموسمية.