رام الله | مع إعدام جنود العدو الإسرائيلي، الشهيد الفلسطيني عبد الفتاح الشريف، ثم تبرئة القضاء الإسرائيلي الجندي، مطلق الرصاصة الأخيرة، يجد الفلسطينييون أنفسهم أمام «شيك» مفتوح من الأسئلة: كم مرّة علينا تقديم دليل للعالم يثبت جُرم إسرائيل؟ ألا يكفي مثلاً أنها بقرت بطون الحوامل في مجازر عدّة؛ أبرزها دير ياسين؟ ألا تحرك مسألة سرقتها أعضاء الشهداء ساكناً عند مدّعي حقوق الإنسان؟ ماذا يريد هؤلاء أفظع من حرق عائلة الدوابشة والطفل محمد أبو خضير؟ هل وصلهم صوت تكسر عظام الطفل مناصرة؟
وكان التسجيل المصوّر لإعدام الشريف قد أظهر جندياً إسرائيلياً يطلق الرصاصة القاتلة على رأس الجريح الملقى على الأرض. فعل ذلك من مسافة قريبة، مع أن الشاب لم يكن أساساً قادراً على الحركة. استشهد الشريف على الفور برفقة زميله الشهيد رمزي القصراوي. وخلال العملية أصيب أحد الجنود بجروح متوسطة. ومع أن الشريط صوّر تفاصيل الجريمة، إلا أن القضاء الإسرائيلي برر فعلته، كعادته في إيجاد مخارج يبرّئ فيها أفعال مجرميه.
مدير معهد الطب العدلي في جامعة النجاح، ريان العلي، شارك في تشريح جثمان الشريف، وانتهى من إعداد التقرير الطبي القضائي الذي يكشف الجريمة بالتفصيل. يشرح العلي، في حديث إلى «الأخبار»، أنه في النتيجة النهائية للتشريح «تعرض الشريف لعدد من الأعيرة النارية، منها ما تركز في الأطراف السفلى ومنها في الجانب العلوي من الصدر»، موضحاً أن «إحدى الرصاصات اخترقت تجويف الصدر وأدت إلى تمزق الرئة اليمنى وإحداث نزف داخلي في تجويف الصدر».
مع ذلك، يضيف الطبيب أن «جميع الإصابات المذكورة كانت سطحية ولم تؤدّ إلى وفاة الشهيد مباشرة، لأن كميّة الدماء المتجمعة في التجويف الصدري الأيمن لم تتجاوز نصف ليتر وهي كمية غير كافية لتسبب الوفاة». لكن الرصاصة القاتلة، هي تلك الأخيرة «التي اخترقت الجمجمة من أعلى الناحية القفوية اليمنى، خارجةً من أسفل الناحية القفوية اليسرى، وأدت إلى تهتك كامل في الجدار وتفتت في عظام الجمجمة».
الرصاصة الأخيرة أدت إلى تهتك جدار الجمجمة وتفتت عظامها

العلي أكّد أن النتائج التي يخلص إليها التقرير المكوّن من تسع صفحات، تشكل ملفاً كاملاً لإدانة إسرائيل، وكافية لتذهب فيها وزارة الخارجية الفلسطينية والجهات المسؤولة إلى المحاكم. وقال: «نشرّح منذ مدة جثث الشهداء، حتى لو رفض الأهل ذلك، ولا نتوقف حتّى عند الصعوبات كما هي الحال في حال الجثث التي تم وضعها في درجات حرارة منخفضة»، موضحاً أن الأطباء يعدون تقريراً كاملاً، مستعينين بالصور الطبقية والتقنيات الحديثة لإعداد ملف مهني يمكن أن يُقدم في أي محكمة في العالم.
الطبيب الذي يجد في عمله واجباً وطنياً، يقول إنه خلال سنوات عمله الطويلة كان يتأثر بمرضاه، لكنه لم يكن في موقف أصعب من رؤية الجثث المتجمدة، وأخيراً جثمان الشريف الذي انتظر خمسة أيام ليذوب الثلج عن أعضائه الداخلية والخارجية.
وكانت الخارجية الفلسطينية قد قالت إنها «سترفع ملف جريمة إعدام الشريف إلى المحكمة الجنائية الدولية»، وذلك بعدما أثبتت نتائج التشريح أن الرصاصة الأخيرة التي أطلقها الجندي الإسرائيلي تسببت باستشهاده، وأن الرصاصات الأولى التي أصيب بها لم تكن سبباً في ذلك. كما قالت إن نتائج التشريح في حالة الشريف، «تنطبق على جميع حالات الإعدام الميداني بحق فلسطينيين، عملت سلطات الاحتلال على تغطيتها وطمس الأدلة التي تدين جنودها القتلة».
محافظ مدينة الخليل، كامل حميد، قال لـ«الأخبار»، إن «إعلان نتيجة التشريح يأتي بالتزامن مع إطلاق سراح الجندي المتهم وحجزه في معسكر للجيش»، مؤكداً أن هذه «جريمة إعدام واضحة وبالدليل القاطع»، ومطالباً كل الجهات المختصة «بوقف هذه الإعدامات ومحاكمة مرتكبيها». وأعلن حميد أنه في حال تسلم الجثمان ستستكمل الاجراءات حتى النهاية، من أجل الخروج بالملف اللازم، وذلك بالتعاون مع عائلة الشهيد، ووزارة الأسرى، و«نادي الأسير»، والقضاء الفلسطيني.
وبشأن الرواية الإسرائيلية، يوضح الناشط محمد أبو علان أن الاحتلال لم ينجح في إخفاء جريمة إعدام الشريف، محاولاً ترويج فكرة أن هذه الجريمة «حدث فردي من جندي تصرف بصورة شخصية»، وخصوصاً أنه استعمل اعتراف الجندي لإثبات هذه «التخريجة». ورأى أنه «بغض النظر إن كانت قد صدرت للجندي تعليمات بإطلاق النار في تلك اللحظة أو لم تصدر، فمثل هذه التصرفات هي قاعدة في جيش الاحتلال الإسرائيلي وليست استثناء». فعلى مدار الأشهر الستة الماضية، أعدم الاحتلال عدداً من الفلسطينيين لم ينفذوا أساساً عمليات طعن.
وأضاف علان: «تصريحات المستويات السياسية الإسرائيلية المختلفة صبت في الخانة نفسها؛ اتفق هؤلاء على قاعدة واحدة هي إعدام كل فلسطيني لمجرد الاشتباه بنيته تنفيذ عملية مع نسف فكرة السيطرة عليه، أو محاولة اعتقاله».
بطبيعة الحال، لم ينأ الإعلام الإسرائيلي بنفسه، فقد أجرى موقع صحيفة «يديعوت أحرونوت» (على سبيل المثال لا الحصر) استطلاعاً لآراء 13 ألف إسرائيلي، فتبين أن 81% منهم اعتبروا أنه «لا مبرر لمحاكمة الجندي».
وعن استمالة الرأي العام الإسرائيلي، يقول علان إن كل من يفكر في ذلك لتحقيق اختراق سياسي «مخطئ»، لأن «المعطيات والاستطلاعات تشير إلى أن هذا المجتمع يميني بالجينات، ويزداد يمينية يوماً بعد يوم»، مشيراً إلى أن آخر الاستطلاعات أظهرت أن 52% من المجتمع الإسرائيلي يؤيد طرد فلسطينيي الـ48، و57% مع إطلاق النار على الأطفال حتى لو كان بيدهم مقص.
يشار إلى أن رئيس السلطة، محمود عباس، رد على سؤال أحد الصحافيين الإسرائيليين حول جريمة إعدام الشريف، بالقول: «لن نستبق الأحداث، ولن نضع أنفسنا قضاة، سنقبل بالقضاء العادل»، مع أن بعض الإسرائيليين كانوا أكثر صراحة من عباس وانتقدوا جريمة الجندي.