لم تكن هزيمة، لكنه انتصار بعيد مفتوح على مغامرة مستقبل بعدما كشفت الصناديق عما يثير الدهشة. الانتخابات حفرة من حفرات تعطيل مسار الثورة خرجت منها الثورة بمفاجأة مدهشة، هي ظهور كتلة ثالثة كبيرة خارج استقطاب الفلول والإخوان. هذه هي المعجزة. معجزة عدم تحقق انتصار مزيف لمرشح من أصحاب الحظوظ والثورة معاً، لكنه اكتشاف وجود حصاد لوعي متراكم عبر سنة ونصف سنة، حصاد منح الثورة في الصناديق تصويتاً أعلى بكثير من أصحاب مشاريع العودة (إلى مبارك مع شفيق) أو (إلى الخلافة مع مرسي). كتلة ترفض منطق العصابة التي خططت لكي يخطف شفيق هذه الأصوات. كما ترفض منطق القبيلة الذي تتعامل به جماعة الإخوان المسلمين مع السياسة والثورة.
الكتلة الثالثة خارج سيطرة العصابة والقبيلة. منحت أصواتها لحمدين صباحي وصنعت معجزته، كما شاركت في جزء من أصوات عبد المنعم أبو الفتوح وكانت كل أصوات مرشحين آخرين، في مقدمتهم خالد علي. هذه الكتلة دافعت عن وجودها في مواجهة ألعاب العصابة والجماعة وفتحت لأول مرة الأمل في الصناديق بعيداً عن سيطرة مطلقة بين الكتلتين. هذه الكتلة تكسر استقطاب الإسلام والعلمانية الذي تدور فيه الحياة السياسية منذ الاستفتاء في آذار ٢٠١١. وتزيح من الملعب السياسي أجساداً كبيرة ميتة تتحرك بآليات وأساليب تكاد أن تمنع السياسة. هذه الكتلة اختارت بالأساس حمدين صباحي ليكون ممثلها الكبير بمفاجأة عبرت فيها عن اختياراتها بموجات وعي جديدة. لا يجوز الاستهانة بها ولا التعامل معها باعتبارها أرقاماً في صندوق الانتخابات.
أصوات حمدين لا تصل به فقط إلى قصر الرئاسة، لكنها تجعله معبراً عما لم يكن موجوداً في ظل إلغاء السياسة. كتلة ستتبخر وتطير وتعود إلى بالوناتها الشخصية اذا تم التعامل معها على أنها قطيع يدخل صفقات مع العصابة أو الجماعة. هذه كتلة اختارت المرشح المسلم لا الإسلامي. راهنت على دولة لا تعامل أحداً بالتمييز الطائفي ولا بالتمييز الاجتماعي. كتلة ترفض سياسات الرأسمالية المتوحشة. كتلة تعمل كلمة الكرامة في نفسيتها مفعول السحر. كتلة تدافع عن حياتها اليومية. وتشعر بالخطر من مفتشي الأخلاق ومندوبي ثقافات بعيدة عن التحضر أو تبرر مفهوم تدخل الدولة في تربية الأفراد.
كتلة ترفض تحول العصابة إلى واقع مفروض أو مصير محتمل باعتبار أننا فشلنا في تخطي مبارك ونظامه ووقعنا في الفوضى. كتلة تنظر إلى المستقبل وتخرج من عزلتها أو يأسها لتحاول أن تصنعه. ليس من الفطنة السياسية إعادة هذه الكتلة إلى الاستقطاب بين العصابة والجماعة ولا بين مشروع إعادة دولة مبارك في مواجهة إعلان دولة المرشد أو إعلان الأستاذية على العالم. هذه الكتلة تريد دولة حديثة لا دولة مشايخ تبحث عن فتاوى في الكتب الصفراء لتحصل على سلطة دولة فوق الدولة. ولا دولة جنرال يحكم بقوة السلاح ويوزع الثروة على الحبايب والمحاسيب. هذه هي الكتلة الجديدة أو هدية الانتخابات التي صنعها حمدين صباحي أو عبر عنها أو صعد بها أو حرّكها من بالوناتها الشخصية وجعلها تذهب إلى الصندوق لتواجه محترفي الانتخابات وصيادي الصناديق. هذه الكتلة ستكون عودتها إلى بالوناتها، واليأس أكبر خسارة للسياسة، واستهلاكها في الاستقطاب بين العصابة والجماعة سيدمر كل إمكانيات السير إلى مصر جديدة.
هي كتلة أخرجتها الثورة عن الصمت والسلبية والاستسلام لأقدار السياسة. هذه الكتلة تريد دولة لا أقنعة دولة، لا تعيد الاستبداد العسكري المقنع ولا تفرض الاستبداد الديني المقنع أيضاً.
هذه كتلة المدينة. جعلت التصويت في المدن مؤثراً لأول مرة، دافعت عن حياتها اليومية وحريتها الشخصية، وعدم تحول السلطة إلى مفتش أخلاقي أو مدرس تربية شخصية. كتلة أدركت أنه يمكن أن تبني جمهورية جديدة من أسفل. وتبحث عن مرشح لا يشعرها بالخجل من حياتها اليومية، أو يجعلها محل فتوى أو مراقبة دائمة. ناخب لا يجد تعارضاً بين الذهاب إلى المسجد للصلاة والمقهى لتدخين الشيشة، ولا مانعاً من الذهاب مرة إلى السينما أو تجربة البيرة. كل هذا بدون الشعور أنه وقع في مستنقع الرذيلة وارتكب المعاصي وغادر مواقع المسافرين إلى الجنة. الإخوان بالنسبة إلى هذه الكتلة هم حملة تصاريح الجنة، والفلول هم مصاصو الدماء الذين أجبروهم على الاختباء في الكهوف. والكتلة الجديدة اكتشفت بعد خبرات تصنع الحكمة أنها لا تريد بطلاً يلعب دور مصاص الدماء ولا حامل تصاريح الجنة. تريد دولة محترمة لا دولة تمارس القهر والقمع تحت لافتات نبيلة، دولة تفتح الباب أمام صناعة السعادة... وفقط.



في انتظار الانقلاب


عمر سليمان يحذر: الانقلاب العسكري محتمل جداً. ويحذر أيضاً: الحرب الأهلية قادمة. حدث هذا قبل أيام من الانتخابات الرئاسية، ويبدو أنه قرر تقديم فقرة إعلانية عن صندوقه الأسود. يتحدث دائماً كأن لديه ما سيقلب البلد. ويظهر دائماً أيضاً أن بضاعته قديمة لا سوق لها. صحيح أن الهواجس تحيطنا من كل مكان وعبر تصريحات وخطط لا نراها لسرقة الدولة. وصحيح أن الانتخابات نفسها جرت وفق هواجس لا انحيازات سياسية، لكن هذا شيء بعيد تماماً عن عقلية عمر سليمان، الذي فشل في حماية نظام، ولا يزال يتصور أنه قابل للاستخدام.
عمر سليمان لم يتغير، ولماذا يتغير ابن أجهزة عاشت على الرعب. عمر سليمان لم يفتح صندوقه الأسود، لأن هذا الصندوق فارغ لا شيء فيه. عمر سليمان ظل رجلاً قوياً في المخيلة الشعبية... انتظرت الجماهير الرجل الغامض وتصورت أنه المنقذ، حدث هذا طالما كان في الكواليس. لكنه عندما خرج إلى الواجهة لم يستغرق سقوطه أكثر من خمسة أيام. انكشف عدم الكفاءة السياسية لعمر سليمان، وتعرى وجهه الكئيب حين وقف يطالب الثوار «عودوا الى بيوتكم». لم يلتقط عمر سليمان حساسية الوضع السياسي، وتعامل مع شعب يراه داخل صندوق زجاجي. لم يلتقط سليمان أن الشعب الذي صنع ثورة وهو يضحك، لا يمكن أن تكون عابساً بكل هذه القتامة وأنت تكلمه. عمر سليمان هو تربية الأنظمة التي حبست شعوبها في الصناديق، هو مخلص لتربيته، ويبحث عن وسيلة يعيد بها الشعب الى الصناديق.




شفيق أم مرسي؟




سؤال مؤلم لكتلة خرجت لرفض الاختيارين، وهي الكتلة الأكبر (أكثر من ٥٧ في المئة). شفيق سليل دولة الاستعمار الوطني؟ أم مرسي المبشّر بدولة المشايخ؟ يقولون: شفيق محارب قديم سيهزم الإخوان وسيعيدهم إلى حدود ما قبل ١١شباط. وهذه خرافة كبيرة لأن شفيق ابن دولة الصفقات وإدارة السياسة من الكواليس، حيث كانت تتشبك المصالح الاقتصادية التي تسمح للجناح المالي في الجماعة بالنمو. ويترجم هذا النمو سياسياً في صفقات توزيع مقاعد مجلس الشعب، لكنه يتصادم عندما يتسع التنظيم على الأرض.
شفيق، كما تقول الأحداث، لن يجد أكثر من الإخوان عوناً له ورصيداً معنوياً يُثبت فيه أن نظامه مؤمن. وبمنطق توزيع الكعكة ليس أمام شفيق إلا القيام بدور مبارك في رعاية مصالح متوقفة الآن، وتنتظر إشارة البدء. وهذه الرعاية تحتاج الى مدّ جسور العمل المشترك مع الجماعة. شفيق لن ينتقم من الجماعة، وعلى العكس سيتركها تنمو كجزء من النظام، لتغطي على عملية إعادة بناء «العصابة» ولأن الإخوان يتصرفون بمنطق القبيلة التي تحتكر عندما تنافس وتقصي عندما تتمكن فإنهم سيكتفون بنصيبهم في الكعكة ليبعدوا الخطر عن التنظيم أو جسم القبيلة. الدولة الأمنية ستعود مع مرسي كما ستعود مع شفيق.
الرأسمالية المتوحشة ستنمو مع الاثنين. المنافسة بينهما على زر التشغيل لماكينة الدولة القديمة. ويبدو أن مقامرة الرئاسة كشفت عن هزيمة ما للجماعة، وهو ما يبدو من تعبيرات وجه مرسي، وقادة الإخوان وارتباكهم، وعودتهم إلى نبرة نسيناها تماماً وتتحدث عن «الوفاق الوطني» و«الثورة». لسان الإخوان مضبوط الآن على لغة قديمة، ليست اللغة السلطوية المفرطة في الحديث عن نهاية الميدان بعد الوصول إلى البرلمان، وغيرة التيارات الأخرى. من النجاحات الإخوانية، وكلها لغات السلطة وتبدياتها التي قامت بدورها في الهجوم على الثوار ونزع الغطاء السياسي عن المتظاهرين وتمرير القتل باسم حماية مؤسسات الدولة. لم تنس الكتلة الثالثة تحولات الإخوان وتغيير لسانهم عندما اقتربوا من مقاعدهم وجلسوا بالقرب من الجنرالات وأرسلوا تحيات إلى المجلس العسكري، بينما كانت ميليشياته تقتل في الشوارع. تصويت هذه الكتلة ضد الإخوان والفلول معاً، ضد نصفي الدولة القديمة كما اختارت الجماعة عندما تسللت من الميدان لتبحث عن مكانها في إعادة ترميم السلطة القديمة. مرسي ليس شفيق، لكنه يمكن أن يكون وباسم الله هذه المرة. مرسي ليس شفيق، لكنه ليس مرشح الثورة. مرسي أم شفيق؟ هذا هو مأزق الكتلة الثالثة. حيرة، لكنها إيجابية. رغم كل شيء، وبعيداً عن النتائج. حيرة تدفع إلى الأمام.



ما قل ودل


طالب السياسي المصري محمد البرادعي، أمس، بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، تضم شخصيات ذات كفاءة وصدقية يفوضها الرئيس المنتخب بكامل الصلاحيات إلى حين الانتهاء من صياغة دستور جديد.
وحمّل المعارض المصري عبر «تويتر»، المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية و«من شاركه من القوى السياسية» المسؤولية الكاملة في ما آلت إليه أوضاع البلاد على جميع المستويات السياسية والدستورية والأمنية والاقتصادية.
(يو بي آي)



عندما تطير الأحذية



عندما طارت الأحذية باتجاه رأس أحمد شفيق، لم تكن المرة الأولى، لكنها كانت الرسالة القوية يوم التصويت. هي تصويت اليائس. ورسالة من قوة جديدة ليست متجانسة، وشريحة منها تستخدم لغة الأحذية ضد نجم العصابة القديمة وأملها المنتظر للعودة. وهذه علامة على أن «العصابة» ستواجه قوة جديدة لن تدير خدها الأيسر لمن يضربها على خدها الأيمن. الأحذية التي تتطاير كلما ظهر شفيق لغة حوار يصفها المهذبون بأنها غير متحضرة أو قلة أدب، لكنها ليست كذلك مقارنة بلغة القتل والسحل والبلطجة كما ظهرت في موقعة الجمل، وما تلاها من مواقع استخدمت فيها كل لغات الانحطاط، مغلفةً بهيبة الدولة.
التحضر من وجهة نظر شفيق وعصابته هو الكلام الأنيق الذي يغطي أفعالاً وحشية. هو القناع الذي تريد به إعادة قتل ضحيتك مرة أخرى باتهامها أنها غير متحضرة. الحذاء في انتظار شفيق، هو لغة جديدة من صنع الثورة. ثورة لا تريد الدم، ولا في يدها سلطة تحاكم المجرمين والمتسترين عليهم. هل قتل المتظاهر فعل جميل، أو يمكن تبريره أو تدبيج نبالته، بينما ضرب المسؤول عنه بالأحذية فعل منحط؟
هذه توازنات مجتمع يشعر بقوته ولا تزال أدوات السلطة بعيدة عنه. ومشاعر لم يعد من الممكن تدجينها في أقفاص العبودية المختارة. الثورة قامت وتستمر لكي لا يعود المجتمع إلى النوم. وهذا ما يثير في انتخابات جرت بمنطق «فضل وبواقي» المجال السياسي لمبارك، ووفق شروط لعب وضعها العسكر، لكنها رغم كل شيء ومع كل العقبات رسخت شعور كل فرد بأن صوته مهم. وهذه أولى الإشارات إلى الخروج من الهامش، والدخول في مسرح السياسة. لم يكن ممكناً كما هو معتاد معرفة النتائج، ولا توقعها، ولا معرفة خريطتها إلى آخر دقيقة. وهذا يعني أن لا أحد يمكنه الحسم. الانتخابات كانت حرباً بين أجساد كبيرة متوترة وملعونة، وأجساد أصغر تتعلم وتوسع لنفسها مساحات في الفراغ السياسي. الثورة لم تكن حرباً على السلطة، لكنها حرب مع السلطة المستبدة والفاسدة مع آليات تجعل السلطة شهوة وغريزة تخطفها العصابة، وتحولها إلى ثروات ومزايا. يقتل صاحب السلطة من أجلها ويقهر. لا أحد قادر على خطف الدولة ولا إقصاء الآخرين من تركيبة الدولة الجديدة، ولا يمكن الانفراد بتلوين الدولة بلون سياسي. الانتخابات أثبتت أن هناك موجات عاطفية لا تنتمي كلها إلى تيار بعينه ولا إلى أغلبية بعينها موجات لا يمكن حصارها أو حصرها، بل قبول تعدديتها الحقيقية، أو سيستمر الاحتقان مهما كان المختار في قصر الرئاسة.