القاهرة | «إنتوا هتدخلونا في متاهات ليه... إحنا عايزينه يمشي وخلاص». بهذه العبارة واجه الشاب الثوري، صاحب الوجه البريء، ما حاججه به مقدم البرنامج في التلفزيون الرسمي، قبل نحو عام ونصف العام، عندما كان الحديث يدور عن أن الرئيس في وقتها، حسني مبارك، لا بد أن يبقى في موقعه الرئاسي إلى نهاية فترة ولايته حتى يشرف بنفسه على صياغة الدستور الجديد كما ينص الدستور القديم نفسه. صحيح أن ما كان يصبو إليه الشاب العشريني قد تحقق وأُطيح الرئيس، لكن طوال عام ونصف من عمر الثورة غرق الشاب مع الملايين غيره، الذين انتفضوا لإسقاط مبارك، في عشرات المتاهات التي حالت دون إسقاط نظام مبارك، على نحوٍ بدا معه عنفوان الثورة ليس كافياً لإمرار إرادتها، وبدت معه حال الثورة شبيهة بحال النسوة المطلقات المضطرات إلى انتظار سير قضايا النفقة الشرعية، التي قد تمتد لسنوات، بعدما هيمنت على خطاب الطبقة السياسية المصرية، عقب أيام من إسقاط مبارك حتى الآن، الدعوة إلى تطبيق القانون وتجنّب الإجراءات الاستثنائية.
أكثر القرارات تسييساً لم تفرضها الثورة، بل «جاءت معظم القرارات المهمة من مجلس الدولة، وهو هيئة قضائية مختصة بالقضايا التي تكون الدولة أو أحد المسؤولين طرفاً فيها. ففي العام الماضي، أبطلت سلسلة من قرارات الخصخصة، حسبما يرصد ناثان براون الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. ولكن لأن القرار، الذي لاقى بطبيعة الحال تأييداً شعبياً واسعاً، صدر عن طريق القانون العادي، فقد أمكن حكومة عصام شرف المقالة، المنحازة إلى اقتصاد السوق، الطعن في الأحكام بعودة الشركات إلى الملكية العامة الواحدة تلو الأخرى.
بدوره، قرار حل الحزب الوطني الحاكم سابقاً لم تفرضه الثورة، وقضى به حكم آخر من مجلس الدولة. الأمر نفسه تكرر عند استبعاد رئيس الاستخبارات السابق عمر سليمان من السباق الرئاسي. ولم يستند القرار إلى تاريخ سليمان الذي عيّنه مبارك في الأيام الأخيرة قبل تنحّيه نائباً له، بل إلى بيان مختصر من اللجنة القضائية العليا للانتخابات الرئاسية، قالت فيه إن سليمان لم يقدم ضمن أوراق ترشحه أكثر من 969 توكيلاً شعبياً من محافظة أسيوط، أي إن رئيس الاستخبارات السابق استبعد لنقص في التوكيلات.
لكن طبعاً على الجانب الآخر توالت القرارات القانونية التي أخذت تدريجاً تقضي على الوجود السياسي للثورة، وتقصرها في حيز الوجود المعنوي والرمزي.
فخيرت الشاطر، نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، الذي اندلعت الثورة بينما كان يقبع في السجن، استبعد هو الآخر من الانتخابات الرئاسية، بناءً على حكم سابق ضده من المحكمة العسكرية قبل الثورة، ولكون الشاطر لم يردّ إليه اعتباره في القضية، بالرغم من أنه حصل على عفو فيها. كذلك الحال مع أيمن نور، رئيس حزب غد الثورة. بخلاف تعويل البلاد برمتها تقريباً على حكم مزمع، من المحكمة الدستورية التي عيّن رئيسَها مبارك نفسه، سيحدد مدى دستورية قانون العزل السياسي بحق مساعدي مبارك، وكذا في تشكيل البرلمان الحالي برمته.
إلاّ أن اللجوء إلى المسارات القانونية بعد الثورة تواكب مع استمرار وضع القضاء كما كان، من دون أي ضمانات جديدة لاستقلاله. فلم تصدر تعديلات قانون السلطة القضائية على سبيل المثال. وهي التعديلات التي كانت لتكفل مثلاً انتخاب النائب العام من قبل الجمعيات العمومية لقضاة محاكم الاستئناف والنقض من ناحية، فضلاً عن قصر اختصاصات وزير العدل على الشؤون الادارية.
والإحجام عن هذه الخطوات، يرجّح أنه أخلّ بشدة بثقة قطاع واسع من الرأي العام في صدقية الاحكام القضائية، وهو ما يفسر الضجة التي أثيرت حول قرار رئيس محكمة استئناف القاهرة، عبد المعز إبراهيم، السماح بسفر المتهمين الأجانب في قضية منظمات المجتمع المدني، والتظاهرات العارمة المناهضة للحكم القضائي بحق مبارك ونجليه وكبار رجالات حكمه تحت شعار «الشعب يريد تطهير القضاء».
فرئيس محكمة جنايات القاهرة، أحمد رفعت، استند خلال سير المحاكمة إلى القواعد التقليدية التي تقضي بأن تجري الشرطة تحرياتها، بينما كان قطاع واسع من الرأي العام والحقوقيين بخلاف المدعين بالحق المدني يحذرون من امتناع الشرطة العمدي عن تقديم أدلة الثبوت، في الاتهامات الموجهة لقيادات وزارة الداخلية.