ربما كان آخر ما ينقص المشهد السياسي المصري ليزيده ضبابية وعبثية وتخبّطاً هو خروج نبأ وفاة الرئيس المخلوع حسني مبارك، سواء كان ذلك سريرياً أو نهائياً. إلا أن هذا الأمر قد حدث بالفعل، وبطريقة تعدّ غريبة في التسلسل والنشر والترابط مع أحداث أخرى تحدث في الوقت ذاته، ما جعل نظرية المؤامرة تطل برأسها بقوة، من دون أن يلوم أحد من تبنّاها أو يتهمه بالتهويل أو المبالغة. فأنباء تدهور صحة مبارك منذ آذار 2010، وقت سفره إلى ألمانيا لتلقّي العلاج، هي مادة خصبة للشائعات. وعقب الثورة، أصبحت متابعة حالته الصحية جزءاً رئيسياً من المواد الصحافية في مصر وخارجها، ولا سيما عقب نقله إلى سجن مزرعة طرة، فور صدور حكم عليه بالمؤبد ومعه وزير داخليته حبيب العادلي. وظل الناس يستيقظون وينامون على سؤال «هل سينقل إلى المستشفى العسكري في المعادي أم سيظل في طرة؟».
وكانت الأمور حتى هذه اللحظة تسير عادية وفق ما اعتاده الناس، إلى أن خرجت عليهم قنوات فضائية ومواقع إلكترونية بنبأ وفاة مبارك سريرياًً ونقله إلى مستشفى المعادي على الفور، لتترافق هذه الأنباء مع تساؤلات عن مدى احتمالية وجود جنازة عسكرية له ومصير أسرته وأمواله وغيرها من الأمور. ولعل ما دفع هذه القنوات والمواقع والصحف إلى هذا الأمر، أن النبأ قد خرج من وكالة أنباء الشرق الأوسط، التي يعرف عنها أنها الوكالة الرسمية للدولة أو الناطقة باسمها، إلى أن تبيّن خطأ الخبر. ونقلت وكالة «رويترز» عن مصدر عسكري قوله إن ما يعاني منه مبارك مجرد غيبوبة، وأن الرجل لم يمت ولكن تدهورت صحته فقط، ما استدعى نقله من سجنه. هذا النفي جاء بعد فترة غير وجيزة، تُرك فيها التخبّط يسود بين الناس، لتطرح تساؤلات لماذا لم تنف الوكالة الرسمية نفسها الخبر؟
وقد علّق الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز على هذا الأمر لـ«الأخبار»، قائلاً «إن إذاعة خبر منسوب إلى مصدر مجهول في وكالة أنباء، مخاطرة كبيرة تضع سمعة الوكالة على المحك، وتزيد المخاطرة حينما تكون تلك الوكالة محسوبة على الدولة مباشرةً أو ناطقة باسمها». وأضاف «أن يكون هذا الخبر مستند إلى مصدر واحد، فإن هذا يعدّ خطأً مهنياً فادحاً، لأنه لم يراع قاعدة التثبّت من مصدرين، بما يرجح أن يكون نشره جرى بإيعاز سياسي، لأن من غير المتصور أن يجري ارتكاب خطأ بهذا الحجم من قبل وكالة رسمية من دون تثبّت».
ورأى عبد العزيز أن طريقة تغطية خبر مبارك تعكس هشاشة الوضع الإعلامي في مصر. فمن ناحية لا يوجد قانون لإتاحة المعلومات أو تداولها، وبالتالي لم يتمكن الصحافيون من الوصول إلى مصدر مسؤول لنفي الخبر أو إثباته بسهولة. كذلك، فإن الطريقة التي عالجت بها وسائل الإعلام الحدث، ركزت على التداعيات أكثر ممّا ركزت على محاولة التثبت من صحة الخبر.
لكن ما هو الإيعاز السياسي الذي تحدث عنه عبد العزيز، والذي يجعل الوكالة الرسمية تخاطر بوضع صدقيتها على «المحك»؟ هنا تأتي بقية أجزاء المشهد السياسي، لترسم لوحة نظرية المؤامرة. فمساء أول من أمس، كان ميدان التحرير وميادين مصر تنتفض بكل القوى السياسية ضد «الإعلان الدستوري المكمل»، بصورة بالغة القوة. وكان أنصار المرشحين الرئاسيين محمد مرسي وأحمد شفيق يتبادلون الاتهامات حول نتيجة الانتخابات، وأيّهما أحق بالفوز. وكانت جماعة الإخوان تدرس الطريقة التي ستخرج بها من مأزق نزع صلاحيات الرئاسة من مرشحها. وكان أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور يسابقون الزمن حتى يفرضوا وجودهم على المجلس العسكري، ولا سيما بعد حدوث توافق داخلها يسمح بتجاوز الاستقطاب السابق. وهي أمور جميعها تحدث صداعاً في رأس المجلس العسكري وتؤرقه، وهو على أعتاب رسم ملامح المشهد الختامي في سيطرته وهيمنته على الحكم.
هذه الأمور جميعها أدت إلى بروز مجموعة من الاحتمالات حول أسباب الإعلان عن وفاة مبارك. الاحتمال الأول، الذي جرى تداوله، تعلق بما يحدث في الميادين والتوحد الموجود في الشارع ولو جزئياً. وذهب البعض إلى أن إعلان وفاة مبارك كان لصرف الانتباه عن القضية الجوهرية، وهي الإعلان الدستوري المكمل، ومحاولة حل الجمعية التأسيسية، إلى درجة دفعت الشاعر عبد الرحمن يوسف إلى القول «لو حدّ قالك مبارك مات، قوله ده مش موضوعنا». ويبدو أن حجم الضغط والغضب المتصاعد في الشارع كان يحتاج إلى شائعة بهذا الحجم لصرف الانتباه عنه وفق العديد من الآراء المتداولة بين النشطاء.
الاحتمال الثاني جاء لينصب على فكرة التضخيم من أمر مرضه وسوء تدهور حالته الصحية، حتى يتسنى لأعضاء المجلس العسكري إخراج رئيسهم السابق من سجنه، ووضعه تحت الرعاية الطبية في مكان بعيد عن السجن، للحدّ من تدهور حالته النفسية، مع قبول الرأي العام بالمعاملة المميزة له، قبل الحكم عليه بالحبس وبعده.
الاحتمال الثالث، هو زيادة ضبابية المشهد العام، وإشعار الناس بأن لا شيء مفهوماً على كل المستويات، ما قد يمهد لإعلان شفيق رئيساً للجمهورية، رغم ما يملكه مرسي من محاضر فرز تثبت فوزه. الاحتمال الرابع، يتعلق بفكرة التمهيد لإخراج مبارك خارج مصر، تحت ذريعة إنقاذ روحه، وجس نبض الناس حيال الاهتمام بحال مبارك ووجوده داخل مصر أو لا.
أما الاحتمال الأخير فهو أن يكون مبارك قد مات بالفعل، وجرى التكتّم على الخبر وتسريب شائعة الموت السريري، وجلطة المخ، لقياس ردّ فعل الرأي العام تحسّباً لإذاعته رسمياً وتمهيد إذاعة الخبر للرأي العام، أو القيام بدفنه سراً وتجهيز جنازة شكلية بتابوت فارغ له مستقبلاً.
ورغم تعدد هذه الاحتمالات وتواترها، إلا أن سياسة التكتم هي التي لا تزال مسيطرة. وغياب الشفافية يجعل التضارب والتخبّط سيديّ الموقف، إلى درجة دفعت المصريين إلى إطلاق عدد من النكات قالوا فيها «مصر اليوم في عيد، فأنصار مرسي يحتفلون بالفوز وكذلك أنصار شفيق، وأنصار مبارك مبتهجون لنجاته، وقبلهم كان المضادون له مبتهجين لنهايته». وقالوا أيضاً «الشعب المصري هو الشعب الوحيد الذي لا يعرف مصير رئيسه السابق ورئيسه الحالي»، مردّدين «وكم في مصر من المضحكات، لكنه ضحك كالبكاء».