«الحناظل» آخر القبائل
لم نختر النفي، ولم نختر منافينا. لم نختر أن يكون آباؤنا وأمهاتنا لاجئين، ولم نختر لغتنا. كانت محض مصادفة، أو قضاءً إلهيّاً لحكمة ما، لم تعد واضحة.
اختارنا الغياب، تبنتنا المصيبة، ووقعنا في لغة تنشب بها الحروب منذ 14 قرناً. في وقت ما بُعيد القنبلة النووية وقبيل أن يدرك الشرق شكله الجديد تماماً، ولدنا في أماكن تكاد تكون متطابقة لولا اختلاف لون الأوحال التي تغطيها. ولدنا في المخيمات، ولم نختر أن يكون اسمها مخيمات أو أن نبقى فيها إلى الآن.
وكانت القبائل ولا تزال، ترسم الشرق كطفل عدواني يعبث على الأوراق، هذا الشرق الذي لا يمكن أن يقبلك إذا لم تتماهَ معه، ولن يقبلك ولو كنت كما هو! لن يقبلك الشرق العربي الذي يأكل بعضه بعضاً منذ أمد بعيد، ولو كنت أنت أنت. لكن اللعنة ذاتها حملناها من بلادنا، وشكلنا قبيلة جديدة تنتشر على شكل مجموعات تترامى على أطراف المدن الصغيرة. كانت الدول القطرية تتشكل في حوض المتوسط وجنوبه وفي صحراء العرب، فما كان لنا إلا أن نكون قبيلة لها حلم وطني ومنظمة تحرير وفصائل تحرير مسلحة لا تزال تناقش فكرة التحرير.
تغيرت طرق الزعامة والحكم الإقليمية عمّا كانت عليه تاريخياً؛ فقد أصبحت ممالك وإمارات وجمهوريات وجيوشاً. أما ونحن أعناء تتوزع على تلك الأراضي، فلا بد لنا من جيش خاص، ولا بد لنا من ميزة ككل القبائل، قبيلة تبحث عن ميزة تميزها بين القبائل الفقيرة الضعيفة التي لعب بها «لورنس» وإمبراطوريته من خلفه ليستطيع رجل واحد، واحد فقط، أن يحتال على آلاف الشيوخ العرب ويمزقهم ثم يعيد تركيبهم كأنهم لعبة «ميكانو».
القبائل التي تتمنى أشياء، لو تحققت لأصبحت ذات جانب ومكانة. كل قبيلة مزهوة بعلمها ونشيدها الوطني وطاووسها، وكذلك كنا نقول بطرق مختلفة: لنا مثل ما لكم، لنا طواويسنا وأعلامنا وأغانينا التي تميزنا عن (إخوتنا) من القبائل بأننا قبيلة الموت واللجوء والفقر، قبيلة المتعلمين والمضطهدين والمتحررين من أعباء الأرض والحلم والحكم، وسمونا الشعب العربي المقاوم المناضل... إلخ، تباً كم تتسع هذه اللغة!
تقاطع دمنا مراراً مع دماء الآخرين، دم معنا وآخر ضدنا. تقاطعت دماؤنا بعضها مع بعض، وسجلنا في التاريخ قطيعاً من معارك الجمال وإصدارات مختلفة لـ«صفين»، ولم يكن فينا أو منا إمام ولا صحابي ولا خارجي.
المنافي واسعة للحلم، ضيقة على الحياة. المنافي قليلة الدروب إلى خارجها وكثيرة المتاهات داخلها. المنافي تلغي، مؤقتاً، الفارق بين الغني والفقير وتكشف الفارق بين إنسان وإنسان. يصبح كثير من سكانها عبيداً للإعاشة، وكثير منهم يحلم بالقفز نحو «قمة هاوية».
المنافي يسكنها أناس رائعون ودون ذلك. المنافي تؤلف أغاني جميلة، تدخّنُ الذاكرةَ، وتنفثها في حلقات للدبكة والشتيمة على القبائل المتخاذلة. في المنافي تتعلم النساء أن يخفين صرخات اللذة لئلا يُسمعن، ويتعلمن كيف يجعلن من مشهد السروال النسائي الداخلي المعلّق على حبال الغسيل مشهداً عادياً.
في المنافي يتعلم الأطفال ألعاباً مبتكرة تحول بينهم وبين أن يكبروا بسرعة، وتعلمهم أن للوحل ألواناً مختلفة. المنافي مغلقة على ما سيأتي، بطيئة التبدل والتغير. المنافي مفتوحة على ما قد مضى تلوكه صباح مساء، المنافي مليئة بالكتب من شرق وغرب، في المنافي كان الدين غائباً عن المشهد ليحل محله «لينين» و« ماو» و«ماركس» وأسماء من هذا القبيل. وجب الانتظار عقوداً من الزمن لينهار الوهم فيتدخل في المشهد الخرافي لبلادهم التي بلا أرض، الدين أخيراً وتخطفه وجوه بلحى طويلة وتنهي ما فشل المنفى والاحتلال في فعله.
حسناً، إذاً انهار الوهم، وهم المنفى المبتدع حتى يستطيع الناس إكمال حياتهم، انهار ليتضح المشهد.
مقابر الشهداء تقبع في مكان ما من المخيم، وقد بقيت لفترة طويلة لا تستقبل إلا الزعامات والطواويس التي تموت في منفاها بالسرطان والذبحة الصدرية. بعض المنافي انتقلت من حالة «الغيتو» إلى حالة «العشوائية المتمدنة»: مسخ جديد بنصف مدنية ونصف منفى. وكان على الناس فيها أن يبتدعوا وأن يضعوا قوانين الشكل الجديد للمنفى، وأن تُستدعى على عجل النرجيلة والمقاهي والشعر والأدب والاقتصاد، ليصبح المشهد الجديد ذا معنى، وليصبح أكثر قابلية لاحتماله. إذن أخطأت النظرية، وأصبحت «خيمة عن خيمة لا تفرق».
حتى ساعة كتابة هذه الكلمات، لا يزال المنفى موجوداً ومتناثراً في الشرق العربي الجديد، ينتظر أن تنهار أكذوبة القبائل التي تحيط به لتطل نعرات أبناء العمومة بحرب «بسوس» جديدة أو «داحس والغبراء»، أو أن ينفجر المنفى معلناً القيامة... على نفسه.
فراس صيدم ـــ مخيم الهول