بالعودة إلى الوراء بضعة أشهر، كانت الحكومة السودانية تعيش في برج محصن. أو هكذا كانت تصريحات مسؤوليها توحي. لا خوف من احتجاجات شعبية أو تظاهرات، بل على العكس من ذلك اطمئنان إلى مجرى الأوضاع في البلاد بناءً على معطيات محلية وإقليمية. إقليمياً، جاءت انتفاضتا مصر وليبيا، لتطيحا اثنين من أبرز خصوم نظام الإنقاذ. أما داخلياً، فكان غياب أي رد فعل حقيقي على انفصال جنوب السودان، وانسلاخ مساحات واسعة من البلاد بما تحويه من ثروات نفطية، أهم مؤشر بعثاً على الاطمئنان. وهو ما دفع الرئيس السوداني، عمر البشير، إلى القول بكل ثقة: «إذا ثار الشعب ضدي فسنخرج له ليرجمنا بالحجارة»، قبل أن تمضي حكومته في إجراءات تقشفية حادة أثارت سخط المواطنين ودفعتهم للخروج إلى الشارع.
لكن البشير لم يف بوعده، بعد دخول التظاهرات الشعبية أسبوعها الثاني، بل على العكس من ذلك، أوحى خطابه أول من أمس بأنه لم يستفد من الدروس التي قدمتها الاحتجاجات من الدول المجاورة. فخرج رافضاً للاحتجاجات متهماً «بضعة محرضين» بتدبيرها، عوضاً عن الاعتراف بأحقية الشعب في التظاهر، أخذاً في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية المتردية وسياسات التقشف. كذلك، لم يفت الرئيس السوداني الحديث عن مؤامرة تتعرض لها البلاد، داعياً إلى التصدي لها عبر «فتح معسكرات التدريب وعدم الاستكانة؛ لأن التآمر على البلاد لا يزال مستمراً». وبذلك لم يشذ البشير عن الرؤساء العرب الذين اختاروا مواجهة المحتجين باتهامهم أنهم «جرذان» أو «عصابات» أو «فئات مضللة»، وهو ما دفع المحلل السوداني، خالد التيجاني، في حديث مع «الأخبار»، إلى القول إن خطاب البشير تعبير عن ضعف، بعدما كان الرئيس السوداني قبل أشهر يبالغ في التعبير عن ثقته باستقرار الأوضاع في البلاد. وأوضح التيجاني أن خطاب البشير بدا وكأنه استعجل المواجهة مع الشارع، لافتاً إلى أن الرئيس السوداني يرى هذه المرة أن الوضع مختلف وأن التحدي حقيقي، ما جعل لهجته أكثر حدة. وأضاف أنه «للأسف يبدو الوضع في السودان وكأنه استنساخ لما جرى في العالم العربي خلال العامين الماضيين حيث تولدت الثورات من احتجاجات محدودة فشلت السلطات في احتوائها».
ولفت التيجاني إلى أن المشكلة ليست بالتظاهرات، لأن أسباب اندلاعها موضعية نتيجة للوضع الاقتصادي الذي لا يطاق. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الحكومة التي عوضاً عن أن تتحسب لهذه الحالة، وتحاول تصحيح اختلال سوء إدارتها وسياساتها، اختارت تحميل التبعات للشعب وجعله يدفع الثمن عبر اتخاذ إجراءات تقشفية عارمة.
في ظل هذه الأجواء من المتوقع أن يكون السودان خلال المرحلة المقبلة أمام سيناريوين أساسيين: السيناريو الأول يتمثل في قدرة الحكومة بالتعاون مع بعض أطياف المعارضة على عقد صفقة، تتيح بموجبها إدخال إصلاحات والتراجع عن سياسات التقشف الحادة، تمهيداً أمام احتواء غضب الشارع. حتى هذه اللحظة، لا يبدو هذا السيناريو مستبعداً، نظراً إلى محدودية الأعداد المشاركة في التظاهرات إلى جانب عدم صدور أي مواقف حازمة ضد النظام من المعارضة. لكن الإصلاح بحدّ ذاته تحدٍّ قد لا تكون الحكومة قادرة على القيام به، وخصوصاً بعدما أثبتت تجارب السنوات الماضية غوص الدولة في حالة من تضخم الوظائف الحكومية، بعدما تحولت المناصب إلى الوسيلة المثلى لإرضاء أعضاء الحزب الحاكم من جهة والخصوم الذين نجحت السلطات في استقطابهم من جهةٍ ثانية، قبل أن تضطر الحكومة في إطار الإجراءت التقشفية الأخيرة، إلى تخفيف العديد من المناصب.
أما السيناريو الثاني، فيتجسد في تمدد التظاهرات وازدياد أعداد المشاركين فيها بوتيرة متسارعة، وخصوصاً بعد إعلان محامين عن انضمامهم إليها، من غير أن يكون النظام قادراً على محاولة احتوائها إلا من خلال التسبب في سقوط قتلى. عندها، سيكون على النظام مواجهة غضب عارم، لن يستطيع الصمود أمامه طويلاً، وخصوصاً أن للسودان خبرة مع الثورات، حيث كانت الدماء المتساقطة تزيد المحتجين عزماً.
وفي السياق، يرى التيجاني وجود عدة عوامل قد تساعد على الاتجاه نحو هذا السيناريو. فعلى صعيد الوضع الداخلي لحزب المؤتمر الوطني، هناك أزمة داخلية بين تياراته، تعقد أي اتجاه نحو الإصلاح، وخصوصاً أن بعض القيادات تحكم منذ أكثر من عشرين عاماً قبضتها على المناصب، جاعلةً من أي عملية تجديد للقيادات أمراً مستحيلاً.
أما المعارضة، التي وصفها بالضعيفة، وبأنها تشكل الوجه الآخر لأزمة الحكم في السودان، الذي هو عبارة عن نظام بائس وضعيف، فأوضح أنها تملك القدرة على تأجيج الاحتجاجات، مع استبعاده تحولها إلى ملهم وقائد طليعي لها.
من جهتها، أوضحت نجلة زعيم حزب الأمة، مريم الصادق المهدي، لـ«الأخبار»، أن الواقع في السودان خطير جداً، متحدثةً عن احتقان سياسي بالغ دفع العديد من الجهات إلى رفع السلاح في وجه الدولة للمطالبة بحقوقها. وبعدما أشارت إلى أن هذه الاحتقانات تفجرت حروباً وسط فشل اقتصادي، فاقمته سياسات خاطئة للحكومة رهنت اقتصاد البلاد للبترول الموجود في الجنوب، أوضحت أن الحكومة أتت لترفع الدعم عن السلع الرئيسية، ما سبب ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار طاول الشعب الذي يعاني أصلاً من الفقر. في المقابل، أشارت المهدي إلى أن الحكومة رفضت القيام بأي مراجعة حقيقية لإجراءاتها وسياساتها طوال الأعوام الماضية، حيث كانت تستخدم مليارات الجنيهات على رفاهية المسؤولين. لذلك، ترى المهدي أن الانفجار لن يتوقف إلا بإصلاح جذري وشامل ضمن أفق سياسي جديد، منبهةً إلى أن الإصلاحات الشكلية التي اعتاد النظام القيام بها سابقاً لا تجدي نفعاً ولن تؤدي إلاّ إلى مزيد من الاحتقان.
وتؤكد المهدي أهمية أن يطاول التغيير الشامل للنظام كل السياسات، لا الأشخاص فقط؛ لأن ليس الهدف تبديل الوجوه بل النظام، معربة عن أملها أن يتحقق هذا الهدف بنحو سلمي وتوافقي، مشيرةً إلى ضرورة أن يسلم نظام البشير السلطة للشعب والقوى العريضة لتكون جزءاً من التغيير بالتزامن مع تأكيد حزبها ودعمه لحق المواطنين الدستوري في التظاهر ومقاومة رفع الأسعار.



هدوء في الخرطوم

شهدت الخرطوم أمس هدوءاً نسبياً بعد أيام من التظاهرات التي يقودها ناشطون، في محاولة استغلال الاستياء من الاقتصاد لبناء حركة أوسع نطاقاً لإنهاء حكم البشير الممتد منذ 23 عاماً. وقال شاهد لوكالة «فرانس برس» إن عدداً من الطلاب في كلية الطب بجامعة الخرطوم حاولوا تنظيم تظاهرة في وسط المدينة، أمس، لكن الوجود الأمني المكثف حال دون اكتساب الاحتجاج أي قوة دفع. وكانت الشرطة قد استخدمت في وقت متأخر أول من أمس الهراوات والغاز المسيل للدموع لتفريق احتجاج في منطقة الجريف بشرق الخرطوم، بعدما أغلق المتظاهرون طريقاً رئيسياً وأحرقوا إطارات، ورددوا هتافات تندد بغلاء الأسعار.
وعلى عكس الخرطوم، شهدت أمس منطقة القضارف في شرق البلاد، والقريبة من الحدود مع اريتريا تظاهرات منددة بالنظام السوداني، هتف خلالها المحتجون منددين بغلاء الأسعار ورددوا شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». وتخلل التظاهرة، التي ضمت 200 شخص، إحراق مقر للحزب الحاكم.
(أ ف ب)