بروكسل | انفجر إصبع بارود بيد رياض، اللاجئ السوري الشاب في مخيمٍ تابعٍ لمنظمة «الصليب الأحمر» في بلجيكا، بعد أن التقطه من حديقة «الكامب»، دون أن يدري ما هو. نُقل رياض إلى المشفى وخِيطت جراحه. أعاد الطبيب وصل وتر يده المقطوع، واكتفى بإعطائه قطرةً لأذنه التي انشق غشاؤها من حدة الانفجار.
تؤكّد إحدى المتطوعات في «الصليب الأحمر» أن «إصبع البارود من بقايا مفرقعات نارية لحفلة أقيمت هنا، قبل عام ونصف عام، وليس من مخلفات عسكرية في الكامب»، مشدّدة على أنه «لا يوجد ما يُثير القلق، ولم يكن لينفجر لو أن رياض لم يعبث به». كذلك، حرصت إدارة «الكامب» على عدم تسريب الخبر إلى وسائل الإعلام، لأن أرضه كانت قطعة عسكرية كبيرة فيها مهاجع وملاجئ، وحتى قبور عسكريين قضوا في زمن مضى.
يروي إبراهيم لـ«الأخبار»، وهو لاجئ يعيش في «الكامب» منذ خمسة أشهر: «لا يُعقل تحويل قطعة عسكرية، سابقة، إلى مكان لاستقبال وإقامة نحو ألف لاجئ، بينهم مئات الأطفال، دون التأكد من أنه خالٍ تماماً من أي مخلفات عسكرية، أو حتى مفرقعات نارية... كما قالوا».

الواقع المزيف

حال رياض كحال أغلب اللاجئين ممن «انفجروا» ندماً حين وصلوا إلى أوروبا، ووقفوا على حقيقة الواقع المُزيف. بعضهم عاد إلى سوريا، بينما يعود شهرياً، آلاف العراقيين إلى بغداد. أم زينة، امرأة سورية، وصلت إلى عاصمة «الاتحاد الأوروبي»، في صيف العام الماضي، برفقة طفلتها ذات السنوات الأربع. اعتقدت أن حَمْلَها سيجعلها تحظى بمعاملة خاصّة، لكنّها صُدمت بالواقع. فقررت العودة إلى دمشق... وعادت.
تقدّم الحكومة البلجيكية لكل لاجئ مبلغاً أسبوعياً بقيمة سبعة يورو

تقول إن «الموت في سوريا تحت القصف أشرف بكثير من العيش هنا». تروي أنه من لحظة وصولها أبُلغت بأن قطعة اللحم التي يقدمونها، كل يومين، «حرام». يقع «الكامب» في منطقة عسكرية، اعتادت أم زينة أصوات الطيران والتدريبات. لكن الصدمة، بالنسبة إليها، كانت بوضع ثلاث عائلات في غرفة واحدة، حيث تقطن المرأة مع رجل غريب عنها، «هي وحظها قد يكون عراقياً أو أفغانياً أو ألبانياً أو أوكرانياً، أو أفريقياً، ولك أن تتخيل».
تتساءل: «كيف يمكن امرأةً وحيدة أن تتشارك مع رجل غريب غرفة واحدة؟ وأن يتشاركا الحمام؟». حاولت المرأة الدمشقية التفاهم مع القاطنين معها، لكن دون فائدة. «لا يوجد لغة مشتركة، أو ثقافة مشتركة، ولا حتى دين مشترك»، ترى أن الأوروبين يتقصدون ذلك «بدهم يطفشوا الناس». لم تستطع تحمّل أكثر، قدّمت طلب العودة إلى سوريا. «والله بتضل سوريا بكل المصائب أفضل من الأوروبيين الكذابين دعاة الإنسانية».
في دمشق، تتابع أم زينة حياتها طبيعياً، في بيتها وبين أهلها. تنتظر قدوم مولودها. أما صديقتها مروة، فقد أصيبت بصدمة نفسية، بعد أن أنجبت طفلها الأول علي، لأن إدارة «الكامب» رفضت منحها غرفة منفردة.
يسرد حسين، زوج مروة، ما حدث معه، فيقول: «مشاكل كثيرة بيننا وبين عائلة أوكرانية تُشاركنا الغرفة... لم نقبل في البداية أن يكون معنا أحد، لكنهم رفضوا مطالبنا، وفقدت زوجتي قدرتها على الكلام، ولم يعد في صدرها حليب لإرضاع طفلنا، الذي هجرته تماماً». استدعى «الصليب الأحمر» طبيباً نفسياً للإشراف على علاج الأم المنهارة كلياً، وطبيب أطفال لمتابعة وضع علي الذي لم يتجاوز عمره شهراً واحداً.
العائلات السورية والعراقية تشتكي من مشاركة غرفهم.

«الأكل الحرام»

تقدّم الحكومة البلجيكية لكل لاجئ قبل حصوله على الإقامة مبلغاً أسبوعياً بقيمة سبعة يورو، إلى جانب ثلاث وجبات يومية يصعب أكلها «إلا لمن كان مضطراً».
يقول خالد، أحد اللاجئين: «منذ لحظة وصولنا أبلغونا أن الطعام غير حلال، وأن الطبخ ممنوع. يقدمون وجبة الإفطار عند الساعة السابعة صباحاً، والغداء عند الواحدة ظهراً، والعشاء عند الخامسة مساءً، وحينئذ، تبقى بلا طعام حتى صبيحة اليوم التالي»، متسائلاً: «الكبار لا يحتملون ذلك، فكيف الأطفال؟». يضيف: «معظم الطعام غير صالح للأكل، فهو مطبوخٌ بطريقة سيئة جداً». أما عن المبلغ المقدّم، فيقسّمه خالد بين كتب ودفاتر لمدرسة تعليم اللغة، وشامبو ومعجون أسنان، ورصيد «إنترنت»، واصفاً ذلك بـ«المسخرة الحقيقية، فالمبلغ لا يكفي أبداً».
معظم اللاجئين يطبخون في غرفهم، مستخدمين السخانات الكهربائية. يومياً، يدهمهم عناصر «الصليب الأحمر». يصادرون السخانات فيشتري اللاجئون غيرها، وهكذا. أما شبكة «الإنترنت» فمحصورة في مبنى الإدارة ومحيطه. تُشغّل وتُفصل بحسب مزاج المدير، ما دفع اللاجئين إلى شراء خطوط وشحنها شهرياً، ليتواصلوا مع أهاليهم.
في محيط «الكامب»، يوزّع التجار الأتراك سرّاً فضلات مطاعمهم ومحالهم التجارية على اللاجئين. ورغم أن معظمها منتهي الصلاحية، وقد مضت عليها أشهراً، إلا أن اللاجئين يأخذونها نتيجة الجوع والحاجة. وقد أصيب بعضهم بإسهالات حادة إثر تناولها.

«الرابح الأكبر»

عَرف الأتراك من أين تؤكل الكتف. استثمروا قضية اللاجئين وحققوا أرباحاً كبيرة من تجارة البشر والنفط السوري. أما خارجياً، فقد تمكنوا من الضغط على «الاتحاد الأوروبي». وكلما كان الأوروبيون يتأخرون بالرد، كان الأتراك يرفعون سقف المطالب، إلى أن لبّى «الاتحاد الأوروبي» مطالبهم صاغراً.
وقّع الجانبان اتفاقاً في مقر «الاتحاد» في العاصمة البلجيكية بروكسل، وصفه رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو بـ«التاريخي». ومن يراجع التاريخ يدرك تماماً مقصد داوود أوغلو، إذ وُقِّع الاتفاق في الثامن عشر من آذار، حين كانت أنقرة تحتفل بالذكرى الأولى بعد المئة للانتصار الساحق الذي حققته القوات العثمانية على الجيشين البريطاني والفرنسي، في معركة «جناق قلعة».
حققت انتصاراً سياسياً على الأوروبيين، إذ يقضي الاتفاق بإعادة أي لاجئ إلى تركيا يصل إلى دول «الاتحاد» بشكل غير شرعي، بدءاً من 20 آذار. ويفرض أيضاً على الأتراك ضبط حدودهم البرية والبحرية مع اليونان، بينما يلتزم «الاتحاد» دفع ستة مليارات دولار للأتراك دعماً للاجئين. كذلك سُتلغى تأشيرة «الشنغن» عن المواطن التركي، في الأشهر القليلة المقبلة.
وصل السوريون إلى أوروبا، والتمسوا واقعاً مختلفاً تماماً عما كانوا يشاهدونه في صور أقاربهم وأصدقائهم، على شبكات التواصل الاجتماعي. اختلفت القصص عن تلك التي تبادلوها عن أوضاع اللاجئين هناك. لقد تعلّقوا بـ«قشّة» اللجوء، ظنّاً أنها خلاصهم. باعوا ما بقي من أملاكهم وجمعوا مدخراتهم، وهاجروا إلى الجنة الموعودة. حين رأوا الواقع المزيف، أدركوا خيبة الأمل. لقد كان واقعاً بعيداً عن الصور الملتقطة في زوايا ضيقة، لا تتسع لحياة كريمة كما كانوا يحلمون.