بدماثة الرجلين المعروفة عنهما، بدأ السلام بين الرئيس السوري بشار الأسد والمبعوث الدولي كوفي أنان، بحضور رئيس بعثة المراقبين التابعة للأمم المتحدة الجنرال روبرت مود، والمستشار السياسي لأنان، مارتن غريفيث. واستهل الموفد الأممي حديثه بإشارة إلى اطّلاعه على الإطلالات الإعلامية الأخيرة للرئيس السوري من التلفزيون الألماني إلى صحيفة «جمهورييت» التركية، معقّباً: «يبدو سيادة الرئيس أنكم تكثفون ظهوركم الإعلامي هذه الفترة». فردّ الأسد مبتسماً: «هذا صحيح، وذلك لسببين. أولاً أنا من الناس الذين يفضّلون الفعل ومن ثم الكلام. وثانياً لأننا لاحظنا تعتيماً كبيراً على الحقائق، وتشويهاً وتحريفاً للكثير من الأمور والوقائع.
لذلك رأيت من واجبي أن أتكلم». فهم أنان الإشارة، فردّ بأنه يدرك تماماً الفارق بين ما هو حاصل على الأرض، وبين الصورة المظهّرة في أكثر من مكان للسيناريوات المتخيّلة على مستوى أكثر من أجندة وانطباع، ليبدأ بعدها كلامه المعدّ الرسمي: «سيادة الرئيس وجدت من واجبي بعد المؤتمر الذي عقدناه في جنيف، وقبل أيام من موعد الإحاطة المفترض أن أقدمها إلى مجلس الأمن في 20 و21 تموز الجاري، أن آتي إليكم وألتقي بكم وأعرض معكم ما قمنا به وما علينا متابعته».
كان واضحاً من العبارة الأولى أن أنان قصد عدم الإشارة، لا من قريب ولا من بعيد، إلى مؤتمر باريس، ولا إلى الكلام التصعيدي الذي تضمّنه وتلاه. لا بل ذهب أنان أبعد من ذلك، إذ اغتنم تكرار تمسّكه وتمسك المنظمة الدولية بمبادرته الأساسية وببنودها الستة، ليؤكد لمضيفه الرئاسي أن ما صدر عن مؤتمر جنيف يصبّ في إطار الحرص على هذه المبادرة لا غير، مضيفاً في موقف لافت: «تعلمون لا شك سيادة الرئيس أن حقيقة ما جرى في جنيف مختلفة عن بعض التأويلات والاجتهادات التي حاولت إضافة أمور لا علاقة لها بالمؤتمر أو تحريف ما أقرّ فيه». وهو ما بدا متطابقاً تماماً مع الموقف الروسي من المواقف الغربية التي أعقبت المؤتمر.
بعدها انتقل أنان إلى الحديث عن الأوضاع الميدانية في سوريا ومهمة المراقبين الأمميين، لافتاً إلى أنّ مأساوية الظروف في بعض المناطق، وبالتالي ضرورة التوصل إلى تطبيق جوهر مهمته، ولا سيما بندها الأول لجهة وقف أعمال العنف. وردّ الأسد متفهّماً ومتجاوباً بالكامل، وقدّم لضيفه عرضاً مقتضباً لمسار مهمته منذ انطلاقها في 12 نيسان الماضي، وكيف تمّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار، التزمت به القوات المسلحة الرسمية طيلة 24 ساعة، قبل أن يخرقه المسلحون، بتأكيد تقارير المراقبين الأمميين. وفيما كان الأسد يعرض تلك الوقائع، كان رئيس بعثة المراقبين الجنرال روبرت مود يومئ برأسه أكثر من مرة موافقاً على ما يسمعه. استوعب أنان كلام الأسد، وانطلق منه ليشير إلى أن صحة ما ذكر تؤكد مرة جديدة ضرورة العمل أيضاً على وقف النار، وخصوصاً أن الوضع المتفجّر بدأ ينتقل إلى خارج سوريا، قبل أن يسمّي لبنان كساحة مقلقة لجهة تداعيات الأوضاع السورية. «فلنحاول مجدداً، ولنضع آلية محددة لوقف النار تبدأ بمنطقة معينة من المناطق الأكثر سخونة، ثم تنتقل إلى أخرى»، قال أنان. مرة أخرى أبدى الأسد تجاوباً كاملاً، قبل أن يسأل ضيوفه: «نحن دولة وحكومة وسلطات رسمية، وبالتالي إذا اتفقتم معنا وأعطينا كلمتنا بوقف النار، فنحن مسؤولون عن ذلك، ويمكنكم مراجعتنا حيال التنفيذ. لكن مع من ستتفاوضون في الجهة الأخرى؟». هنا ردّ أنان وتدخّل مود في الكلام، ليشرحا أن المراقبين الأمميين تمكنوا خلال فترة مهمتهم من إجراء نوع من مسح شبه شامل للمجموعات المسلحة العاملة في تلك المناطق، «بتنا نعرف المجموعات الأساسية على الأقل، كما أصبحنا نعرف المسؤولين عنها. صحيح أن لا قيادة موحدة ولا هيكلية واضحة، لا بل هناك فوضى مسلحة كبيرة لديهم، لكننا صرنا على دراية بالمفاصل. ولذلك نعتقد أنه يمكننا العمل معهم للسير خطوة خطوة»، قال أنان ومود. وفي سياق كلامهما، بدا واضحاً أن المسؤولين الأمميين باتا يصنّفان الجهة المعارضة للسلطات السورية على أنها «معارضة مسلحة»، وهو ما ظهر لاحقاً في البيان الرسمي الذي أصدره أنان.
عند هذا الحد، جرى تذكير أنان كيف أن المسلحين هم من أجهضوا أكثر من مرة محاولات مماثلة، وخصوصاً في حمص: «قبل مدة كان مراقبوكم شهوداً على محاولة بعض المسلحين الخروج من حي الخالدية في حمص وتسليم أسلحتهم وأنفسهم، لكنّ مسلحين آخرين منعوهم من ذلك. كذلك كان مراقبوكم شهوداً على منع المسلحين محاولة لإجلاء بعض السكان المحاصرين في حي الديان والحميدية من حمص». وهذا ما أكده غريفيث الذي كان شاهداً على وقائعه.
ولم ينفِ المسؤولون الأمميون كلام مضيفهم، لكن أنان تابع قائلاً: «مع ذلك، ولأن الوضع على هذه الحال، فلنحاول مجدداً. مراقبونا سيتوصلون إلى اتفاق مع المجموعات المسلحة في أي منطقة نتفق على العمل فيها. وفي المقابل نريد منكم بادرة حسن نية في أي نقطة نتوافق على الانطلاق منها. بادرة من قبلكم تتمثّل في وقف إطلاق النار من جهتكم ومن طرف واحد قبل وقت قليل من سريان وقف النار المتبادل، ولو لمدة 4 ساعات مثلاً».
هنا جرى تذكير أنان بأن وقف النار، في مبادرته وضمن بنودها الستة، مرتبط بوقف التسليح والتمويل وتهريب الأسلحة. وكان الموفد الأممي ينصت باهتمام إلى هذه المسألة الحساسة، لكنّ اكتفاءه بالإنصات انقطع حين وُجّه إليه سؤال مباشر: «ما رأيك بكلام وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، قبل يومين، لجهة دعوتها المجموعات المسلحة إلى الهجوم عسكرياً على القوات الحكومية؟ هل ينسجم موقف كهذا مع مضمون مهمتكم؟». سكت أنان لثوان قبل أن يرد: «طبعاً لا. هذا كلام خطير. لكن فلنحاول. فلنتفق على هذه الآلية، ولننطلق إلى محاولة تطبيقها على الأرض، خطوة خطوة».
أما عن الإطار الزمني الممكن لعملية كهذه، فقد تبادل الطرفان أكثر من فكرة ورأي واقتراح، قبل أن تستقر الخلاصة على موعد أوّلي، هو ثلاثة أشهر، بدءاً من الخطوة الأولى التي تنفذ في سياق هذه الخطة. وفي هذه الأثناء يعمل الطرفان على إصدار بيان مشترك بشأن تقدم العمل مرة كل أسبوعين.
انتقل أنان، بعد الشق الميداني، إلى الحديث عن مسألة الحوار السياسي بين الحكم والمعارضة. وبلهجة متراوحة بين الواقعية والتشكيك، سأل الموفد الأممي مضيفه: «إذا تقدمنا في حلحلة البند الأمني وبلغنا مرحلة الحوار، هل يمكنكم تسمية ممثل لكم في هذه العملية ليكون مفاوضاً لممثل المعارضة؟ نوع من ضابط اتصال لمواكبة القسم الثاني من مهمة الأمم المتحدة». ابتسم الأسد قبل أن يجيب فوراً: «نحن قررنا ذلك قبل أن تسألونا. منذ تأليف الحكومة الحالية سمّينا شخصاً مسؤولاً عن هذا الموضوع. وهو نفسه سيكون ممثلنا لديكم في هذه العملية. إنه وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية الدكتور علي حيدر». حاول أنان الاستفسار عن حيدر، فشرح له الأسد أن هذا الاختيار وقع على حيدر لعدة أسباب، «أولاً لأنه ليس من الفريق الموالي، لا بل هو فعلياً من المعارضة. ثمّ إنه رئيس لأحد الأحزاب المعروفة بصدقيتها في سوريا خارجها. ثالثاً لأنه من الذين أصيبوا في هذه الأحداث الدامية، فابنه قتل على أيدي المسلحين، ومع ذلك تسامى على جرحه وأقبل على هذه المهمة من أجل مشروع مصالحة وطنية حقيقية». تفهّم أنان شروحات الأسد، قبل أن يعقّب: «لكننا كنا نفضّل أن يسمّى شخص قريب منكم، بحيث يكون على اتصال مباشر معكم لمواكبة العملية الحوارية». ابتسم الأسد وهو يقول لضيفه: «أنا والدكتور علي حيدر كنّا على مقعدين متلاصقين طيلة دراستي الجامعية لطب العيون. هل تريدون شخصاً أقرب من ذلك؟». ووسط ابتسامات الحاضرين، أضاف الأسد: «على كل حال أعتقد أن الصعوبة ستكون لديكم في الجهة الأخرى، لا عندنا. فهل ستقدرون على الحصول على اسم يمثّل المعارضين؟». هنا لم يتوان أنان عن إطلاق ضحكة، مزكّياً كلام الأسد، ومضيفاً: «أفهم تماماً هذه الصعوبة، فلقد رأيتهم في مؤتمر القاهرة الأخير».
انتهى الاجتماع الرسمي، وكان لا بدّ من عبارات ختامية، فسأل أنان مضيفه، وهو يهمّ بالنهوض: «إلى متى تعتقد أن هذه الأزمة يمكن أن تستمر؟». ابتسم الأسد مجيباً بسرعة: «ما دام نظام (...) يموّلها». لم يفاجأ أنان بالإجابة، بل أردف مستوضحاً: «وهل تعتقد أنهم خلف كل التمويل الحاصل؟». أجاب الأسد «بل هم خلف أمور كثيرة تحصل في منطقتنا، فهم يعتقدون أنهم قادرون على زعامة العالم العربي راهناً ومستقبلاً»، قبل أن يختم الموفد الأممي الحديث معلّقاً: «لكن يبدو لي أنه ينقصهم عدد السكان اللازم لطموح كهذا». فضحك جميع الحاضرين.
وفيما كان الموفد الأممي يغادر دمشق إلى طهران، كانت بعض المعلومات تتأكد لـ«الأخبار»، منها أن أنان سيزور موسكو مجدداً منتصف هذا الشهر، وهو الذي انتقل من دمشق أمس إلى طهران، وأن الجنرال مود وصل إلى بيروت لإجراء مباحثات مع سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والذين انسحب نظراؤهم من دمشق قبل مدة، علماً بأنه لم يُعرف الهدف الفعلي من هذه الخطوة. فهل هي في سياق التمهيد لإحاطة مجلس الأمن بعد حوالى عشرة أيام، أم المسألة مرتبطة بإشارة أنان إلى خطورة تداعيات الوضع السوري على الساحة اللبنانية؟
الحرارة في دمشق، بعد انتهاء الاجتماع في القصر الرئاسي، لامست الأربعين درجة مئوية. إشارة من الطبيعة قد تسهّل تحديد «المناطق الساخنة» المفترض الانطلاق منها «لبلورة حوار يقوده السوريون»، كما أكد أنان.



فوزي على قارعة القصر


فور انتهاء اللقاء مع الرئيس السوري بشار الأسد، بدا كوفي أنان متلهفاً لمتابعة التفاصيل التنفيذية في اجتماع سريع اتفق على عقده مع الوزير وليد المعلم، في وزارة الخارجية السورية. فانطلق موكبه مسرعاً لموافاة الأخير في مكتبه. وهو ما جعل الوفد الأممي ينسى الناطق باسم أنان، أحمد فوزي (الصورة)، وحيداً في قصر الشعب، باحثاً عن سيارة متوجهة صوب الوزارة. غير أن مصادر أممية مطّلعة أفادت بأنه ليست سرعة انطلاق موكب أنان ما خلّفت فوزي على قارعة رصيف القصر، بل السبب هو أن فوزي، وهو من المصنّفين ضمن مدرسة عمرو موسى في العمل السرّي المتعدد، اتّجه بعد الاجتماع نحو أحد أروقة القصر لإجراء بضعة اتصالات هاتفية، وهو قصد التخابر بعيداً عن «الآذان» في سيارات الموكب الأممي. لكن الأمر لم يفت أنان، الذي فور رؤيته فوزي، لاحقاً، حرص على إعطائه تعليماته بأن يؤكد البيان أن الاجتماع مع الأسد كان «بنّاءً وإيجابياً».