القاهرة | المسافة بين جيش يوليو وجيش يناير، هي المسافة نفسها التي بين ما حدث في يوليو وما جرى في يناير. ما بين 1952 و2011 سنوات تبدلت فيها أشياء كثيرة، الجيش الأول قاد انقلاباً عسكرياً تحول إلى ثورة شعبية، أما الثاني فاستولى على ثورة شعبية، وحوّلها إلى انقلاب عسكري. وما بين الانقلاب والثورة الشعبية فرق كبير، ربما تزيد المسافة بينهما كلما تباعدت أهداف المنقلبين مع الشعب، والثوار مع العسكر. فمساء 11 شباط 2011، كانت هناك روح غريبة تسيطر على الشارع المصري، استطاع في النهاية هزيمة الرئيس الذي كان يردد دائماً أن معه دكتوراه في العناد. التشابه الوحيد بين المجلس الذي كان يقوده جمال عبد الناصر والمجلس الذي يقوده اليوم المشير حسين طنطاوي أن كليهما عسكر، لكن هناك فروقاً شاسعة بين عسكر يؤمن بالثورة، وعسكر يرى أن الثورة مجرد عملية إصلاحية لا أكثر.
عسكر يناير ارتكبوا من الجرائم، ما يجعل العديد من النشطاء والسياسيين ينادون بمحاكمتهم. فالمجلس العسكري الحاكم الوحيد للبلاد منذ تنحي حسني مبارك في 11 فبراير 2011، والشريك في الحكم مع الإخواني محمد مرسي، منذ 30 حزيران من العام الحالي، أصبح مسؤولاً عن قتل الشهداء أمام ماسبيرو، وفي مجلس الوزراء، وفي شارع محمد محمود، وفي ميدان العباسية، وأمام وزارة الدفاع، وفي غيرها من المواقع التي شهدت سقوط شهداء أصبح من الصعب إيجاد حصر محدد بعددهم.
إدارة عسكر يناير للحكم خلال عام ونصف، نجحت في أن تجعل الشارع يكفر بالثورة، وأصبح المواطن يرى أن الثورة هي سبب الأزمات التي يعيشون فيها طوال الفترة الماضية. زادت أعمال البلطجة في الشوارع، مع استمرار غياب الشرطة، وباقي الأجهزة الأمنية الأخرى، في حين كانت تلك الأجهزة في الوقت الذي كان فيه المجلس العسكري يريدها أن تكون موجودة، كالانتخابات البرلمانية. ورفض المجلس العسكري إصدار القوانين التي طالبت بها القوي الثورية، فرفض إقرار قانون لحرمان بقايا النظام السابق من المشاركة في الحياة السياسية، ورفض إقرار قانون الحد الأدنى والأقصى للأجور، وكذلك قانون الضريبة التصاعدية. كان إصرار عسكر يناير من اليوم الأول أن لا نية لتأميم الشركات، ولا تراجع عن اتفاقيات المخلوع حسني مبارك، وما سبقها. كانوا يؤكدون طوال الوقت بصورة غير مباشرة أن الثورة ما قامت إلا لتغيير الأشخاص، بينما النظام هو نفسه القائم. وهو عكس ما قام به عسكر يوليو الذين كانوا يعيشون حالة ثورية حقيقية، أدت بهم إلى القيام بانقلابهم العسكري في 23 يوليو، مع العلم بأن مصيرهم سيكون الإعدام لو فشل الانقلاب وتم القبض عليهم. تلك الروح الثورية ظهرت جلياً في انحيازهم للشارع. صحيح أنهم في طريق هذا الانحياز وقعوا في أخطاء، وربما ارتكبوا جرائم، ومن الممكن أن يكون أوقعوا البلاد في مصائب، لكنهم في النهاية كانوا يسيرون في اتجاه هذا المواطن، الفقير العامل والفلاح. فأصدروا قانون الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية الزراعية، وإعادة توزيع الأراضي على صغار الفلاحين، وصدر قرار بوضع حد أدنى لأجر العامل الزراعي. في بداية حكم عسكر يوليو، بدأوا في إنشاء صناعة مصرية وطنية. أقاموا مجمع الحديد والصلب، وفكروا في إنشاء السد العالي. بالفعل نظر عسكر يوليو إلى المهمشين. ففي آب من العام 1952، صدرت أول موازنة مالية بعد ثورة يوليو، كان أبرز ما فيها خفض نفقات الديوان الملكي من 800 إلى 500 ألف جنيه، والنص على تخفيضات أخرى فى المصروفات السيادية بالدولة، وتم تخصيص سيارة شعبية لكل وزير، بدلاً من المواكب التي كانت ترافق الوزراء. كانت أيادي عسكر يوليو لا ترتعش وهي تسعى إلى بناء أول جمهورية، لم يتراجعوا عن هدف جلاء الإنكليز عن كل شبر مصري.
ليس بإمكان أحد أن ينكر الأخطاء التي وقع فيها ثوار يوليو، لكن أيضاً لا ينكر أحد أنهم كانوا أفضل كثيراً من هؤلاء الموجودين حالياً.