لم تكد دولة جنوب السودان تعلن توقيع اتفاقية تعاون للبنية التحتية المائية والتنمية التكنولوجية مع إسرائيل، حتى علت الصرخات في كل من السودان ومصر بوصف ما جرى خطراً طارئاً يهدد الأمن المائي لكلا البلدين وينبغي التصدي له، متناسين أن هذا الاتفاقية لم تكن سوى تتويج لفشل البلدين في مراعاة مصالحهما.
الأطماع الإسرائيلية في مياه النيل وموارد القارة الأفريقية ليست جديدة. الدولة العبرية لجأت منذ سنوات إلى تعزيز علاقتها بعدد كبير من البلدان الأفريقية حتى باتت تشكل حديقة خلفية لإسرائيل. وتحتل الموارد الطبيعية الهائلة التي تختزنها بلدان القارة سلم الأولويات الإسرائيلية في القارة السمراء إلى جانب الملف الأمني.
أما بخصوص جنوب السودان، فلم تخف إسرائيل يوماً علاقتها بمسؤولي الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحاكم المطلق للجنوب، أو بقادة التمرد الجنوبي الآخرين منذ اندلاع شرارته قبل عقود. والنظرة الأمنية لجنوب السودان سبق أن لخصها وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق أفي ديختر، في محاضرة ألقاها عام 2008 تحت عنوان «أبعاد الحركة الاستراتجية الإسرائيلية المقبلة في البيئة الإقليمية»، بفكرتين رئيسيتين، الأولى مرتبطة بالسودان والثانية بمصر.
يومها تحدث عن تقديرات اسرائيلية تعود إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي مرتبطة بوضع السودان، وتفيد بأنه «يجب ألّا يُسمح لهذا البلد، رغم بعده عنّا، بأن يصبح قوة مضافة إلى قوة العالم العربي، لأن موارده إن استُثمرت في ظل أوضاع مستقرة فستجعل منه قوة يحسب لها ألف حساب». وفي ضوء هذه التقديرات، «كان على إسرائيل أو الجهات ذات العلاقة أو الاختصاص أن تتجه إلى هذه الساحة، وتعمل على مفاقمة الأزمات وإنتاج أزمات جديدة، حتى يكون حاصل هذه الأزمات معضلة تصعب معالجتها في ما بعد».
أما في ما يتعلق بمصر، فلم يتردّد في القول إن التدخل الإسرائيلي في السودان لا ينفصل عما يشكله من «عمق استراتيجي لمصر». ولا يمكن تصور موضوع إثارة للقلق وتهديداً للسودان ومصر في آن معاً أكثر من مياه النيل. وقد نجحت اسرائيل في تهديد الأمن المائي للبلدين إن من خلال الاتفاقية الأخيرة مع جنوب السودان أو من خلال الاتفاقات الموقعة مع عدد من دول حوض النيل على مدى السنوات الماضية.
وتأتي الاتفاقية المائية الجديدة في وقت يطغى فيه التوتر على علاقات مصر والسودان مع معظم دول حوض النيل والمعروفة بدول المصب، وهي إثيوبيا والكونغو الديموقراطية وكينيا وإريتريا وتنزانيا ورواندا وبوروندي وأوغندا.
وتنادي معظم دول المنبع بضرورة ادخال تعديلين أساسيين على الاتفاقات المائية الموقعة بين دول حوض النيل. التعديل الأول يتعلق باتفاقية 1929، والتي تنص على الإخطار المسبق لمصر في حال وجود توجه لاقامة مشاريع مائية في دول حوض النيل. أما التعديل الثاني فتتواجه فيه مصر والسودان مع دول المنبع. اذ ان اتفاقية 1959، حددت تقاسم مياه النيل، فحددت لمصر 55.5 مليار متر مكعب في مقابل 18.5 مليار متر مكعب للسودان. وترى دول المنبع أن هذا التوزيع مجحف بحقها، مطالبةً من خلال طرح اتفاقية «عنتيبي» الجديدة بتعديل الحصص، فيما تحرص مصر والسودان على عدم حدوث أي تغيير في التوزيع، وخصوصاً أن بلاد الفراعنة تعتمد بنسبة تصل إلى 95 في المئة على مياه النيل. وهو ما أدى إلى رفض مصر والسودان التوقيع على الاتفاقية حتى يتم التوافق على البنود الخلافية.
هذا الاعتراض المصري ــ السوداني، لن يحول دون شروع دول المنبع، بما فيها دولة جنوب السودان التي تحولت إلى الدولة الحادية عشرة من دول حوض النيل بمجرد الانفصال، في تنفيذ المشاريع المائية. من وجهة نظر السودان ومصر، تبرز خطورة الاتفاق بين جنوب السودان وإسرائيل، في أنه سيؤدي إلى زيادة استهلاك المياه في الجنوب بما يؤثر سلباً على تدفق مياه النيل من الجنوب باتجاه الشمال ومصر، وبالتالي سيؤدي إلى خنق السودان ومصر مائياً. ويحتل جنوب السودان موضعاً استراتيجياً في ما يتعلق بمياه النيل. ووفقاً للتقديرات، فإن ما يقارب 45 في المئة من مياه حوض النيل يقع في جنوب السودان. كذلك، فإن 28 في المئة من مياه النيل تمر من جنوب السودان باتجاه الشمال قبل الوصول إلى مصر. وبالتالي فإن أي زيادة في استهلاك المياه في الجنوب، وهو أمر متوقع نتيجة حاجة البلاد إلى العديد من المشاريع، سينعكس سلباً على القاهرة والخرطوم.
لكن السؤال الأهم يبقى: ماذا فعلت مصر والسودان للحؤول دون الوصول إلى هذه النقطة؟
على الجانب السوداني، كانت العلاقة بين الشمال والدولة الوليدة منذ الانفصال تزداد سوءاً. فلم يكن يمضي شهر إلا ويسجل اشتباك سياسي ــ عسكري بين البلدين، لتغيب مع هذا التردي المتواصل في العلاقات أي فرصة لتوقيع اتفاقيات مائية حول كيفية تقاسم الحصة التي كانت مخصصة للسودان قبل الانفصال وبات عليه تقاسمها حالياً مع جنوب السودان. كذلك غابت تحت وطأة الخلافات أي فرصة لتوقيع اتفاقيات مائية تراعي مصالح السودان. أما في مصر، فلعل ملف مياه النيل شكل أحد أكثر الملفات تجسيداً لفشل الدبلوماسية المصرية في القارة الأفريقية، بعدما تم تجاهل العلاقة مع هذه الدول. وهو ما تجسد بوضوح في فشل مصر باقناع جنوب السودان باستئناف العمل بقناة جونقلي للحد من تبخر المياه المقدرة بما بين 40 إلى 50 مليار متر مكعب. على المقلب الآخر، أحسنت إسرائيل ملء هذا الفراغ. فلم توفر فرصة لتقديم الدعم لدول المنبع لاقامة مشاريع مائية تضيّق من خلالها الخناق على مصر والسودان من جهة وتعوض نقص المياه الذي تعانيه من جهةٍ ثانية.