دمشق | عشية قيام الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، حذر الرئيس السوري السابق، شكري القوتلي، الزعيم العربي جمال عبد الناصر قائلاً: «كل سوري يعتقد نفسه سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسه قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنه نبي، وواحد من عشرة يعتقد بأنه الله، فكيف يمكن أن تحكم بلداً كهذا؟». ومنذ ذلك الوقت، تحول تحذير القوتلي هذا إلى مثل وعبرة يتناقلها أبناء الشعب السوري في أحاديثهم وجلساتهم ونقاشاتهم، بغض النظر عن طبيعة الحياة السياسية والديموقراطية التي تكونت سريعاً بعد انهيار الوحدة، وسلسلة الانقلابات السياسية المتلاحقة، وصولاً إلى تسلّم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد السلطة عام 1970.
لطالما تميز المجتمع السوري عن غيره من المجتمعات العربية، بتلك التشكيلة الواسعة من القوى المعتدلة، والمعارضة الذكية للنظام الحاكم، وإن بقيت خفيّة مستترة تعمل بعيداً عن الأنظار لفترات طويلة. كما تميز المجتمع بالقدرة الاستثنائية على التسامح الديني. هذه التركيبة الفريدة لأبناء الشعب السوري وفئاته المختلفة، كرست في الوعي وأسلوب التفكير الفردي والجمعي، مفهوم «سلمية التعايش والحياة المشتركة». لذلك لم يكن مستغرباً، وباعتراف أسماء بارزة من النظام السوري، أن تكون «انطلاقة احتجاجات الانتفاضة السورية سلمية بالمطلق في بدايتها». لكن لم تكمل «الانتفاضة السلمية» الشهر الأول من عمرها، حتى بدأت أشكال العنف المسلح بالظهور إلى الواجهة بشكل علني منظم. بدورها، لم تعترف أطياف مختلفة من المعارضة السورية «بالعنف المسلح من قبل بعض المتظاهرين أو من اندسّ بينهم من مخربين»، حسب رواية الإعلام الرسمي ومن في حكمه من الإعلام الخاص. أشهر قليلة ما لبثت خلالها أن تطورت مظاهر «تسلح الحراك الشعبي» بشكل تدريجي، حتى أعلن تأسيس «الجيش السوري الحر» في 29 تموز العام الماضي على يد العقيد المنشق رياض موسى الأسعد. شهدت الانتفاضة السورية بعدها تصعيداً جديداً وفصولاً أكثر دموية، عندما أعلنت حكومات عربية مناهضة لسياسة النظام السوري بشكل صريح، دعمها للجيش الحر بالمال والسلاح لعناصره المنشقين. اختلفت قراءات نشطاء الحراك السلمي، حول عسكرة ثورتهم التي أرادوها أن تكون وتبقى وتستمر «شعبية، سلمية، عفوية، بعيدة عن الخطابات السياسية أو التدخلات الخارجية».
على الرغم من التطورات الدموية الكثيرة الحاصلة، التي أفقدت الحراك السلمي حضوره وبريقه الذي أعلن منذ بدايته، لا يزال بعض الناشطين السلميين مصرّون على أن «الثورة بالوسائل السلمية لا تزال موجودة وقائمة، إلا أن عنف النظام يقضمها باستمرار، لكن مع ذلك ستبقى البقية الباقية تؤمن بالسلمية إلى النهاية، وتحمل جذوتها التي سترسم مسار المستقبل»، كما أخبرنا الكاتب الروائي المعارض عبد الناصر العايد (37 عاماً)، الذي اعتقل أول من أمس في تركيا.
ويرى العايد، الذي سبق أن اعتقل مع بداية الانتفاضة السورية، أن السبب الرئيسي لعسكرة الانتفاضة السورية، بموافقة بعض أطياف النشاط السلمي «هو ما أبداه النظام من عنف سدَّ الطريق على كل أمل بحل سياسي». ويصنف المعارض السوري حاملي السلاح في وجه النظام الحاكم اليوم ضمن فئتين. الفئة الأولى «تضم أشخاصاً تعرضوا لعنف شديد من قبل أجهزة الأمن، والثانية يشكلها الذين فقدوا الأمل بحل سياسي». لا ينكر العايد تحفظه على عسكرة الثورة، وعلى الحال التي وصلت إليها الانتفاضة السلمية التي ساهم مع رفاقه في إشعال فتيلها، مضيفاً «أنا أومن بأن الوجه الآخر للحق ليس الباطل، بل العنف. العسكرة لم ولن تخدم الثورة، لكنها أيضاً صبت في غير مصلحة النظام، الذي دفع الناس إليها دفعاً». ويختم حديثه بالقول «في النهاية، حل الأزمة السورية لن يكون إلا سياسياً».
بعد عدة محاولات، اقتنع ثائر نوفل، وهو الاسم المستعار الذي اختاره المعارض والناشط السلمي ليخفي شخصيته الحقيقية خلفه، بالحديث الذي بدأه قائلاً «لطالما اعتبرت تسليح الثورة والحراك الشعبي السلمي، لعبة قذرة للنيل من سوريا كلها. مهما تسلح الجيش الحر، فإنه لن يصل إلى مستوى تسلح وعتاد الجيش السوري النظامي». ويضيف «أما تطور عملياته على الأرض، في الفترة القريبة الماضية بما سمي معركة دمشق، فكان سبباً كافياً في إرباك النظام وأجهزته الأمنية والعسكرية، ليس أكثر». ولا يتردد المعارض السوري في القول «إن نشأة الجيش الحر لا تزال مشبوهة وملتبسة، ودعوات الانشقاق التي نسمعها ونشهدها يومياً، ستكون سبباً كافياً لتوجيه ضربة قوية للجيش النظامي». لكن، يرى المعارض الشاب أن عمليات الجيش الحر أعطت النظام السوري مبرراً مقنعاً على الصعيدين الداخلي والدولي، لتصعيد عملياته الأمنية.
زياد (اسم مستعار) ناشط عاش تجربة الاعتقال والملاحقة الأمنية لشهور عدة، يؤكد أنه لا يعرف مصدر التهديدات التي يتلقاها هو ورفاقه يومياً. ويضيف «لا نزال نقوم بنشاطاتنا السلمية منذ بداية الأحداث حتى الآن، بما فيها توزيع المساعدات الإنسانية على النازحين من مناطق القصف، غير مكترثين بتناقص أعدادنا نتيجة الاعتقالات الدورية». ويتابع «جميعنا غير راض بالمطلق عن عسكرة الثورة ولا عن ممارسات الجيش الحر، وإن كانت ممارسات الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري قد سبقتها في العنف والدموية، وكانت سبباً مباشراً في تحول الانتفاضة من السلمية إلى حمل السلاح، بعيداً عن مفهوم المؤامرة الخارجية الذي ندركه جميعاً».
يتعرض زياد اليوم للملاحقة من عناصر ووحدات الجيش الحر، لعدم موافقته مع رفاقه في النشاط السلمي على حمل السلاح أو المشاركة في عمليات كتائب الجيش الحر. ويروي «تعرض بعض رفاقي للتصفية أو الاعتقال على أيدي عناصر من الجيش الحر، عندما كنا نحاول إدخال مساعدات غذائية وطبية لبعض المناطق المنكوبة، مثل صحنايا ومخيم اليرموك»، قبل أن يتساءل «ألا تتشابه هذه الممارسات مع ما تقوم به أجهزة الأمن السورية، حسب ما يقوله ويسوّق له دعاة المعارضة والجيش الحر؟».
يأسف الناشط السوري للحال التي وصلت إليها بلاده اليوم، ولا يتوقع عودة العلاقات كما كانت عليه بين الفئات المختلفة المكونة للشعب السوري في القريب العاجل، لافتاً إلى أن «من الصعب بل من المستحيل في مثل هذه الظروف، إقناع من تعرض أهله وأقرباؤه للعنف والقتل على أيدي الأمن السوري، أو من قبل كتائب الجيش السوري الحر، بالعودة إلى التعايش السلمي».
وطالب زياد من الموالين للنظام السوري بتقبل فكرة وجود «فئة من الشباب السوري المعارض، تتبنى الممانعة وخط المقاومة ورفض المؤامرة على البلاد، لكن في الوقت نفسه ترفض العنف والقمع الذي مارسه النظام السوري على مدى عقود طويلة، الذي ترجم مؤخراً بمواجهة الانتفاضة والثورة السورية بالحل الأمني منذ بدايتها، والذي لا يزال مستمراً حتى الآن بحق عدد من الناشطين السلميين».
لا تختلف آراء ووجهات الناشطين السلميين في مدينة حلب، عن رفاقهم في دمشق، وربما في بقية المدن والمحافظات السورية جميعها. نسرين الأنابلي، صحافية وناشطة مدنية، تعتبر الحراك السلمي وسيلة لجذب اهتمام وتأييد الناس. لكن مع دخول الثورة في خندق التسليح والعسكرة، فقدت جزءاً أساسياً من المضمون والطرح الديموقراطي للانتفاضة. وتضيف الناشطة الحلبية إن ازدياد الخسائر البشرية نتيجة مواجهة الجيش السوري والأجهزة الأمنية، مع كتائب الجيش الحر كانت نتيجة طبيعية «لعملية تصفية للحسابات، الأمر الذي أدى إلى انتهاج سياسة القتل العشوائي، ووقوع ضحايا من كلا الطرفين». وأشارت إلى أن «قيام الجيش الحر دعم بشكل غير محدود نظرية النظام بوجود جماعات مسلحة تمارس الإرهاب»، ما أعطى النظام مسوغاً وحجةً للضرب بيد من حديد، لحماية مواطنيه وأمنهم، حسب تعبيرها. وتضيف «نجح النظام في تحويل ما يجري في سوريا، من انتفاضة لنيل الحرية إلى بوادر حرب أهلية بنكهة طائفية».
بدورها، تتذكر الناشطة رانيا عبد الباقي، في بداية حديثها، عدداً من رفاقها الناشطين السلميين، الذين قضوا في التظاهرات السلمية «على سبيل المثال لا الحصر، لنذكر غيّاث مطر بشخصه، وبما مثّله، بأنقى وأوضح صورة ممكنة عن ثقافة الكفاح السلمي». وتلفت إلى أن «هذه الثقافة لم تسيّرها نخبةٌ مثقفة ولا هيئات مجتمع مدني، وإنما اتخذها أولئك المتظاهرون من تلقاء أنفسهم». تسجل رانيا بعض الملاحظات في دفترها، لتذكرها ببعض المواقف والأحداث والمشاهدات عن الانتفاضة السورية. تقرأ لنا «ولئن بسطتَ إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك»، مشيرةً إلى أن «هذا الشعار وغيره من الشعارات المشابهة رفعت مراراً كلافتة مع بداية التظاهرات السلمية. كان هذا الحلم الذي جننا به». تتحدث الناشطة عن الخسائر التي يمكن أن يكبّدها تسليح الثورة في الأرواح، وللصورة السلمية التي بدأت بها الانتفاضة، لكنها تضيف «يبدو من حيث أقف ترفاً أخجل من الخوض فيه، أنا لم يقصف لي منزل ولم يتشرد أهلي، وأعيش في أحد أحياء قلب دمشق الهادئة نسبياً». ومضت تقول «لكنني لا أستطيع أن أجلب حالة «الرواق المدني» هذه التي أعيشها، وأقرر عمن يحضن أطفاله خلف جدار في مدينة منكوبة ويفكّر بالجيش الحر كخلاص وحيد من الفظائع التي تجري من حوله، من قتل وتنكيل واغتصاب منتظراً دوره بيأس حتى يصبح أحد ضحاياها».