إسطنبول | تحدثت وسائل الإعلام التركية منذ أيام عن اشتباكات عنيفة في حلب بين مسلحي «الجيش السوري الحر» والجيش النظامي، وتوقعت مجازر جماعية في المدينة، على حدّ قول رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو. وتحدثت وسائل الإعلام ذاتها عن اشتباكات عنيفة بين مسلحي حزب العمال الكردستاني التركي وقوات الجيش، المدعومة من آلاف حراس القرى الأكراد المتعاونين مع الدولة، في منطقة شامنديلي جنوب شرق البلاد، التي لا يسمح للإعلاميين بدخولها إطلاقاً. ويستخدم الجيش التركي في هذه الحرب طائرات «أف 16» والصواريخ والدبابات والمدفعية الثقيلة، وبدعم من طائرات التجسـس من دون طيار التي اشترتها أنقرة من إسرائيل وأميركا.
ولا يقتصر التناقض التركي على هذه المثال في الملف الكردي، حيث تحارب تركيا حزب العمال الكردستاني التركي منذ 30 عاماً، فيما أنها لم تتردد في التعاون مع أكراد العراق منذ عام 1991، حيث سمحت بوجود قوات «المطرقة» الأميركية والبريطانية والفرنسية في جنوب تركيا لحماية أكراد العراق. حينها استغل حزب العمال الكردستاني حرب الخليج الأولى، وزاد من قوته في شمال العراق. واستطاع الرئيس الراحل تورغوت أوزال، آنذاك، اقناع الزعيمين الكرديين مسعود البرزاني وجلال الطلباني بالتعاون معه ضد حزب العمال الكردستاني. وفشل الزعيمان في خططهما ضد «الكردستاني» التركي، الذي تحوّل إلى قوة جدية في جبال قنديل شمال العراق، بعد أن وصل عدد مسلحيه أواسط التسعينيات إلى 20 ألف مسلح. ولقي الآلاف مصرعهم في الاجتياحات البرية والجوية، التي قام بها الجيش التركي لشمال العراق، وزاد عددها على 27 اجتياحاً خلال السنوات الماضية. ولم تتردد أنقرة في توطيد علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان العراق بعد الاحتلال الأميركي، واستضافت البرزاني زعيماً لأقليم كردستان العراق بصفة رسمية في القصر الجمهوري، وحاولت أن تتجاهل حتى الرئيس العراقي الكردي جلال الطالباني، الذي يمثل الجمهورية العراقية الموحدة دستورياً، في الوقت الذي كانت فيه العشرات من الشركات التركية تُسهم في بناء «الدولة الكردية العصرية» في شمال العراق، باعتبار أن تركيا هي بوابة الانفتاح الرئيسية لأكراد العراق على الغرب. وشهدت السنوات الماضية تعاوناً وثيقاً بين الشركات التركية والأميركية في العديد من المجالات، وحققت للأتراك المليارات من الدولارات من الأرباح، التي كانت ثمناً للاعتراف التركي الرسمي بحقوق أكراد العراق في كيان مستقل، مقابل رفض مطلق لأي كيان مستقل لأكراد تركيا. ويبدو أنهم ليسوا وفق المعايير والمقاييس التركية الرسمية حالهم حال أكراد سوريا؛ فأنقرة التي تبنت المعارضة السورية منذ البداية وقدمت للجماعات المسلحة أكثر ما يمكن تقديمه من عتاد وسلاح ومال، بحجة أنها تدعم الديموقراطية والحرية للشعب السوري، لم تتردد في رفض هذه الديموقراطية والحرية لأكراد سوريا. وهذا ما كان واضحاً على الموقف التركي الرسمي منذ اليوم الأول لاستضافتها مؤتمر المعارضة السورية في مدينة أنطاليا، في صيف العام الماضي، حيث رفضت تركيا إشراك ممثلي الأكراد السوريين في هذا المؤتمر، بعد أن طالب هؤلاء بدستور فدرالي في سوريا الجديدة. وتراجعت أنقرة عن موقفها، ودعمت عبد الباسط سيدا (كردي) رئيساً للمجلس الوطني السوري، ظناً منها أن هذا قد يشجع أكراد سوريا للتمرد على النظام في دمشق. ونسقت أنقرة من أجل ذلك مع رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني، وكان لأنقرة ما أرادته عندما بدأ أكراد سوريا يسيطرون على المدن والبلدات والقرى الكردية شمال البلاد وشمال شرقها، وهو ما أثار ضجة سياسية وإعلامية كبيرة في أنقرة. قالت هذه القيادة، على لسان رئيس الوزراء أردوغان ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، أنها ستتدخل عسكرياً لمنع أي كيان كردي مستقل في شمال سوريا، بما أنّ هذا الكيان سيكون تحت سيطرة الأكراد السوريين الموالين لحزب العمال الكردستاني التركي. وبدأت أنقرة بحشد قواتها على الحدود التركية مع سوريا مقابل المناطق الكردية، ظناً منها أن ذلك قد يخيف الأكراد السوريين ويمنعهم من أي ميول قومية استقلالية. هذه الميول، قال عنها مسعود البرزاني إنها طبيعية وإنهم كأكراد العراق يدعمونها. أزعج هذا التصريح أردوغان وداوود أوغلو، الذي طار إلى أربيل، فوراً، بعد أن تحدث أردوغان إلى أوباما، فيما كان هناك اتصال بين جو بايدن والبرزاني. وظهر التناقض من جديد في الرؤية التركية للأكراد، لتقول أنقرة لأكراد سوريا إنهم سيكونون مقبولين للمقاييس والمعايير التركية إذا تمردوا على النظام السوري، وعملوا مع تركيا في هذا الاتجاه. لكن إن تمردوا على النظام في خطوة أولى للتمرد على تركيا، فحينها المقاييس والمعايير التركية لن تشملهم، كذلك لن تشمل من سيدعهم من أكراد العراق الذين يبدو أنهم يستعدون للقول للأتراك إنهم لم يعودا وفق المعايير والمقاييس التركية بما أنهم باتوا أقرب إلى المعايير الأميركية والأوروبية.
وفي السياق، أجرى الجيش التركي تدريبات بالدبابات قرب الحدود السورية، يوم أمس، في خطوة تبرز قلق أنقرة من الوضع الأمني على الحدود. وقالت وكالة الأناضول للأنباء إن نحو 25 دبابة شاركت في التدريبات في منطقة نصيبين في إقليم ماردين، على بعد كيلومترين فقط من الحدود السورية. ونقلت عن حاكم ماردين قوله إن التدريبات ستستمر عدة أيام. وأكد مراد جيرجين المسؤول في نصيبين، في مكالمة هاتفية إجراء التدريبات في المنطقة ورفض الخوض في تفاصيل. وقالت وكالة «دوجان للانباء» إن التدريبات التي أشرف عليها قادة محليون نفذها اللواء 70 ميكانيكي في ماردين.
وتشعر أنقرة بالقلق من أنباء أن جماعة كردية مرتبطة بحزب العمال الكردستاني تسيطر على مناطق كردية في شمال سوريا. وقصفت أنقرة مراراً أجزاءً من شمال العراق، وأرسلت قوات إلى هناك حيث توجد معسكرات لحزب العمال الكردستاني.
وسيطغى الصراع في سوريا بشدة على اجتماع المجلس العسكري الأعلى التركي، الذي بدأ أمس. وينعقد المجلس برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ويضم كبار قادة الجيش، مرتين سنوياً، لبحث ترقيات الجيش، وحالات التقاعد والإقالة.