في بيتنا جنديلا توجد طريقة لأبدأ بها الحديث؛ فالحقيقة هذه المرة لا تحتمل الشرح: جندي يسكن حارتي!
كان مفترضاً أن يكون يوماً سعيداً: بدأت عملاً جديداً، مساعدةَ محرر في مجلة «مالكم»، وهي المجلة الاقتصادية العربية الوحيدة في البلاد. كان يومي الأول، وكدت أطير فرحاً، إلى أن رأيت ذاك الجندي الذي كان يستقل الباص العائد إلى مدينتي، فارتميت مصدومة في مقعدي!
حادثتُ صديقتي في عمّان عبر هاتفي الجوال وأنا في الباص، قلت لها إن هناك جندياً عائداً معي في الباص المتجه نحو «طمرة»، لا بد وأنه سينزل في أي محطة قبل أن يدخل الباص البلد، لكنه لم يفعل. أكدت لها أنه سينزل بعدما يخرج الباص من البلد، إلا أنه لم يفعل. لا، لقد نزل معي في المحطة ذاتها، أي في حارتي!
لم يسلك الشارع نفسه، انعطف نحو الحارة المجاورة. كانت صديقتي لا تزال على الخط. أخبرتها أنه نزل معي، فسألتني إن كان عربياً، وأجبتها بأنه يظهر عليه أنه من البلد، أو أنه يعرفها جيداً؛ فهو لم يسأل ولم يتردد في سَلْك الطريق، كذلك فإن ملامحه عربية. أجابتني: إذاً هو خائن! تذكرت أني رأيته سابقاً يستقل الباص من المحطة التي نزلت ونزل فيها (لم ننزل معاً؛ فأنا نزلت في وطني، وهو نزل كأيّ محتل آخر)، وتذكرت أنه ذات يوم من محطة أخرى استقل الباص جندي آخر، أيضاً داخل البلد، وجلس إلى جانبي، فقمت وغيّرت مكاني، وتذكرت تلك الشرطية التي لطالما رأيتها ترتدي زي الشرطة الإسرائيلية وتحمل مسدسها وتنزل من الباص في المحطة التي تسبق مكان نزولي. عندما تعافيت من صدمتي، تراءت لي حقائق أخرى كنت أغفل عنها عمداً، مثلاً أن عدد المتقدمين للخدمة المدنية في المؤسسات الحكومية الإسرائيلية في مدينتي وعدد المتقدمين طوعاً للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال من مدينتي يتزايد، وأنهم صاروا يزيدون على أصابع اليدين، كذلك فإنهم باتوا أجرأ بالعودة إلى المدينة بلباسهم العسكري. وفكرت: كم تعامينا عن الحقيقة، وكم تجاهلناها!
طالما كنت أرى «طمرة» على أنها مكاني «المقدس»؛ فهي جليلية جليلة، ومن جبلها الصغير تستطيع أن ترى حيفا وعكا والبحر، فهي تقع على سفوح أحد مرتفعات الجليل الأسفل الذي لم أعرف إلى اليوم إن كان جبلاً أو تلاً، ولا أدري له اسماً إلا ما يسميه به أهل البلد «الصنيبعة»، وهو المكان الذي لجأ إليه أهل البلد حين دخل الصهاينة واحتلوا البلد. حضنهم واحداً واحداً، ومنه عادوا إليها غير قادرين على السفر بعيداً نحو المجهول، هذا المرتفع الأخضر الذي قال عنه سفير فرنسا ذات يوم حين زاره إنه قطعة مهملة من الجنة، كنت أسميه أنا قطعة من جنة مسلوبة اسمها فلسطين.
وبكيتُ... لا لأني لم أرَ جنوداً في طمرة سابقاً، لكن الجنود الذين رأيتهم يجوبون حارات المدينة في صغري، كانوا صهاينة ولم يكونوا يتحدثون بالعربية، كانوا يقومون بدوريات استطلاعية ثم يذهبون. نعم بكيتُ، فقد دنسوا «طمرة»، مدينتي المقدسة الأخيرة!
أنهار حجازي _ طمرة

الطريق إلى كندا

في سفري هذا من غزة إلى كندا، كان الموت يُرافقني على حذر. أنتظر لتُخرجني حماس من «معبريها»: واحد يُسمى صالة أبو يوسف النجار، والآخر معبر رفح. طريقين للعذاب، لتكتمل بهما صالة الانتظار المصرية: «لو سمحت، نحن هنا منذ ساعتين. إلى متى؟».
وجه ساخر يردّ: «هل لديك عمل آخر؟ عودي إلى كرسيكِ. هيا!». نعم، شعرت بالإذلال، في هذه الصالة تحديداً كرهت كل ما يتميز به المصريون، تحديداً لكنتهم!
هل كان الجندي العربي المُتصهين كل مأساتك؟ على الأقل أنتِ انحصر أعدائكِ بالجنود الإسرائيليين المستوطنين، العرب المُتصهينين! نحن في غزة لم نعد نعرف العدد الحقيقي لأعدائنا، هل هم إخواننا الذين يعيشون في نفس الدائرة؟ «نفس الحصار»؟ هل هم المصريون الذين يدعوننا «المخرِّبين» أم العرب؟ هل هم عنصريو الغرب؟ أم اليهود الذين يسيرون بجانبك في الشوارع، المحالّ، الباصات، الأماكن العامة والخاصة في كندا؟
أمر مُحزن أن تكوني مُحاطة بكل الرافضين لكِ: لحجابكِ ولكونكِ فلسطينية. وهذه الأخيرة هي الأشد إثارة للرفض على الإطلاق. كما لو أن هناك لافتة يراها الكل عداكِ مكتوباً عليها «فلسطيني ممنوع تعيش!»، كما قالها الشاعر بلال عبد الله. في كل البلاد التي تنادي باحترام الحريَّات، ثمة الكثير ممن لا يكترث لحريّتكِ، لكونكِ أنتِ أنتِ.
من مطار إلى مطار، كنت وما زلتُ وحيدة، تحبسني غزة في داخلها، كلعنة لاذعة جميلة. تقول لك: أينما ولَّيت فأنا باقية في داخلك، وبصمت تود لو تُدير ظهرك وتعود. بالرغم من أُمنيات التغريب التي وضعتها تحت وسادتك طويلاً حين كنت لا أزال هناك فيها!
أماني شنينو ــــ غزة ـــ كندا