لكل حرب بادرت إليها إسرائيل، منذ الإعلان عن قيامها في عام 1948، بيئتها الاستراتيجية الدولية والإقليمية، التي شكلت ظرفاً ودافعاً لتبلور قرار شنها. ولم تكن الحرب التي شنتها إسرائيل على حزب الله ولبنان، في عام 2006، إلا امتداداً طبيعياً، بل نتاجاً لبيئتها الاستراتيجية التي جعلتها ممكنة وضرورية. ممكنة، بمعنى ارتفاع ما كان يفترض أن ترى فيه إسرائيل مانعاً وعقبةً أمام تنفيذها وتحقيق أهدافها. وضرورية، من أجل القضاء على حزب الله وتدمير قدراته القتالية والعسكرية التي تشكل تهديداً لإسرائيل، وأيضاً بهدف تعبيد الطريق أمام المشروع الأميركي في لبنان ومنه. عشية حرب عام 2006، كانت إسرائيل تتمتع بذخرين استراتيجيين أساسيين، الأول نظام حسني مبارك على جبهتها الجنوبية، الذي ضمن لها تحييد مصر طوال ثلاثين سنة، بما مكّنها من شن الحروب والاعتداءات في فلسطين ولبنان والمنطقة.
والاحتلال الأميركي في العراق، الذي شكل ثقلاً موازياً ضمن لها (وفق التقديرات الإسرائيلية آنذاك) تحييد جبهتها الشرقية والشمالية، لما يشكله العراق من عمق استراتيجي بفعل موقعه الجغرافي لتلك الساحتين، إضافةً إلى ما مثّله من قوة احتواء للجمهورية الإسلامية في إيران.
وهكذا بدت إسرائيل محصّنة بطوق دولي إقليمي استراتيجي، لم يكن ليكتمل آنذاك، إلا بإخضاع حزب الله وسوريا عبر حرب نضج قرار شنها، بعد فشل الرهان على الحراك الداخلي اللبناني، آنذاك، لنزع سلاح حزب الله، وذلك في أعقاب خروج الجيش السوري في عام 2005.
وفق الرؤية والتقدير الإسرائيلي، في تلك الفترة، وفّر خروج الجيش السوري فرصة تجعل من الصعوبة على حزب الله، بعد سحقه أو تدمير قدراته، إعادة بناء منظوماته الصاروخية والقتالية، وبالتالي إنتاج مظلة إقليمية تحمي أمن إسرائيل. لكن فشل الرهان على المسار الداخلي اللبناني جعل الحرب أكثر ضرورة وإلحاحاً... فكانت الحرب.
لكن تداعيات فشلها لم تقتصر على الساحة اللبنانية، بل أحدثت أيضاً تغييراً في عمق التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي. ومن أبرز تجلياتها ما نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» بتاريخ 10/8/2012، عن وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي إيهود باراك من أن «صدمة حرب عام 2006، هي سبب معارضة القيادة العليا للجيش القوية التي لا مساومة فيها لضرب المنشآت النووية الإيرانية».
في كل الأحوال، باتت المشكلة الكبرى بالنسبة إلى تل أبيب ومعها واشنطن، أبعد من فشل حرب عام 2006، ولا سيما بعدما تمكّن حزب الله في أعقابها من استخلاص العبر المطلوبة، ومراكمة قدراته الصاروخية والقتالية. هذا الأمر عزّز محور دمشق وطهران، وتحوّل، من منظور إسرائيلي، من حركة مقاومة تمنع إعادة احتلال لبنان، وتربك مخططاتها في المنطقة إلى خطر استراتيجي آخذ بالتعاظم، بل إلى ركيزة أساسية في المعادلات الإقليمية القائمة.
البيئة الاستراتيجية الحالية
تختصر قصة المصطلح الذي أوصت الاستخبارات الإسرائيلية المستوى السياسي بتبنيه، للتعبير عما يجري في العالم العربي من تطورات، نظرة المؤسسة الإسرائيلية للبيئة الاستراتيجية المحيطة بها. إذ بعد تداول مصطلح «الربيع العربي» على ألسنة السياسيين والمعلقين الإسرائيليين، ووصف آخرين ما يجري، بأنه ليس إلا «شتاءً إسلامياً»، حصل نوع من التخبّط داخل الاستخبارات، حول المصطلح الأكثر تعبيراً عن الواقع، إلى أن رست المباحثات على اختيار مصطلح تم وصفه بالـ«حيادي» وهو «الهزة».
خلفية اختيار هذا المفهوم، تعود إلى كونه ينطوي على إمكان أن ما يجري في العالم العربي يمكن أن يتوّج بـ«ربيع» يوفر لإسرائيل مظلة أمنية إقليمية يحمي أمنها ووجودها، ويمكن أن يتوج بـ«شتاء» بتحول ما يجري من تغيير إلى مصدر تهديد لوجودها وأمنها القومي.
بعبارة أخرى، التقدير الرسمي المتبنى الآن في المؤسسة الإسرائيلية، أن ما يجري في العالم العربي ينطوي على إمكان مفاقمة التهديدات المحدقة بإسرائيل، وفي الوقت نفسه على فرص كامنة يمكن لو تم استغلالها وتظهيرها أن تتحوّل إلى عامل قوة واستقرار للدولة العبرية.
أهم ما يُميّز البيئة الاستراتيجية الحالية، بالمقارنة مع ما كانت عليه عشية حرب عام 2006، أن إسرائيل فقدت ذخرها الاستراتيجي على جبهتها الجنوبية، رغم تجدد رهاناتها على أن لا يكون الواقع بالسوء الذي كانت تتخوف منه. لكن مهما كانت الرهانات والآمال، تبقى حقيقة لا يمكن لإسرائيل أن تتجاوزها، وهي أن مساراً جديداً انطلق على حدودها الجنوبية، تتراكم مؤشراته السلبية تباعاً. وفي الوقت نفسه، تبدو إلى جانبها مكامن فرص، تراهن عليها إسرائيل لتبديد هذا المسار التهديدي، تتمثل بالقيود السياسية الداخلية والاقتصادية في مصر. يضاف إلى ذلك الرهان على إمكان تبني النظام الجديد في مصر أولويات لا يكون لإسرائيل موقعها المتقدم، بل يتم تنحيتها لحسابات إقليمية تتلاءم مع توجهات معسكر «الاعتدال» العربي.
رغم ذلك، القدر المتيقن هو أن حالة من القلق تسيطر على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية دفعتها إلى المطالبة بزيادة موازنتها كي تتمكن من بناء جهوزية قادرة على احتواء أي تطور مفاجئ في الساحة المصرية. وكتعبير عن جانب من مفاعيل هذا المستجد، يمكن الاستفادة من المقارنة التي أجراها اللواء غيورا ايلاند، الذي تولى في السابق مناصب هامة، منها رئاسة شعبة التخطيط والعمليات في الجيش، ولاحقاً رئاسة مجلس الأمن القومي. ايلاند اعتبر أنه «منذ التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد، (ولمزيد من الدقة منذ 1985)، انخفض عديد قوات الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً في سلاح البر. هذا التخفيض في الكمية، بموازاة تحسين نوعية عديد القوات، سمح لدولة إسرائيل بالحفاظ على موازنة أمنية ثابتة تقريباً، بمصطلحات واقعية. ولأن الناتج القومي زاد، فقد خفّت العلاقة بين الموازنة الأمنية والناتج القومي الصافي تدريجاً، من 30 في المئة في عام 1974 إلى حوالى 7 في المئة في عام 2011».
إلى ذلك، فقدت إسرائيل أيضاً ذخرها الاستراتيجي الآخر، عبر انسحاب القوات الأميركية من العراق، في ظل نظام حكم حليف لإيران. وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال كلمة له أمام الكنيست بتاريخ 28/12/2011، بالقول إن «الحدثين الجديدين اللذين من المقرر أن يؤثرا علينا هما: نتائج الانتخابات في مصر (والتي أدت لاحقاً إلى فوز الإخوان المسلمين) والواقع الجديد الناشئ في العراق، الذي وضع إسرائيل في مواجهة تحديات مردها الشرق (إشارة إلى الجبهة الشرقية) بصورة لم نعهدها ولم نتعامل معها منذ 10 سنوات تقريباً».
خلاصة الوضع الاستراتيجي لإسرائيل
من المجدي الاستعانة بتوصيف رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو، للوضع الاستراتيجي الذي آلت إليه إسرائيل في مرحلة ما بعد حرب عام 2006، والانطلاق منه إلى توصيف المرحلة الحالية. إذ اعتبر في محاضرة له، في جامعة بار ايلان، (6/6/2007)، عندما كان رئيساً للمعارضة، أن «حرب عام 1967 شكلت (بالنسبة إلى دولة إسرائيل) انتقالاً من دولة كان أصل وجودها موضع تساؤل إلى دولة من غير الممكن التغلب عليها». وأضاف «النصر والردع الإسرائيليان شكلا عاملاً حاسماً لتوصل دول عربية إلى فهم ضرورة الاعتراف بوجود دولة إسرائيل وإقامة سلام معها، وهكذا تم التوصل إلى اتفاقيات سلام مع مصر والأردن، وإلى مؤشرات مصالحة مع الفلسطينيين».
ومضى نتنياهو يقول «بدءاً من الانسحاب الأحادي من لبنان، ومروراً بالانسحاب الأحادي من قطاع غزة، وبعد حرب لبنان الثانية (2006)، انقلب الاتجاه وبات واضحاً الآن أن إسرائيل لم تعد دولة لا يمكن التغلب عليها. وعاد التساؤل حول بقائها يلوح من جديد، ليس فقط لدى أعداء إسرائيل وإنما لدى أصدقائها أيضاً».
ومن أبرز ما يمكن ملاحظته على هذا التوصيف للواقع الاستراتيجي لإسرائيل، على لسان نتنياهو، أنه أتى بعد مضي نحو 10 أشهر فقط من توقف الحرب في 14 آب عام 2006. أي، حينها لم يكن حزب الله قد استكمل بناء قدراته الصاروخية التي حوّلته إلى طرف أساسي جداً في المعادلة الإقليمية، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم. وفي الوقت الذي كان نظام مبارك لا يزال موجوداً في مصر، ولم يكن هناك أي مؤشرات لدى إسرائيل أو غيرها على إمكان أو رجحان سقوطه في السنوات التالية. وأيضاً، عندما كان الاحتلال الأميركي قائماً في العراق، ولم يكن في حينه واضحاً مستقبل هذا الاحتلال، ولا مستقبل مشروعه السياسي على الساحة العراقية. وهو أمر اشار إليه ضمناً نتنياهو، في كلمته في جامعة بار ايلان بالقول إن «حقيقة عدم وجود تهديد من جهة الشرق، حالياً (على إسرائيل) لا يعني أنه لن يكون هناك تهديد كهذا في المستقبل، وعلى سبيل المثال، في حال عدم تطور الأوضاع في العراق في الاتجاهات التي نرغبها».
إذا كانت هذه نظرة نتنياهو إلى البيئة الاستراتيجية، في عام 2007، فكيف ستكون نظرته في عام 2012، بعدما تكرّس حزب الله كجزء أساسي من المعادلة الإقليمية الرادعة، وبعدما بات يشكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، بحسب توصيف القادة الإسرائيليين أنفسهم. كذلك فقدت إسرائيل فقدان الذخرين الاستراتيجيين في مصر والعراق، (رغم أن المسارات لا تزال تنطوي على فرص فعلية، بحسب التقدير الإسرائيلي)، وتراجعت الهيبة وقوة الردع الأميركية كما أشار إلى ذلك وزير الحرب ايهود باراك نفسه. وباتت إيران أكثر «نووية» وقدرةً ومنعةً.
وفي ظل هذا الواقع الإقليمي والاستراتيجي، باتت تلوح، من منظور إسرائيلي أيضاً، فرصة استراتيجية لم تتوفر مقدماتها طوال السنوات الماضية، تتمثل بالرهان على إمكان إسقاط نظام بشار الأسد، الذي شكل عمقاً وقاعدة احتضان ودعم لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ولانتصاراتها التي غيرت المعادلات الإقليمية والاستراتيجية في المنطقة. وهو ما دفع العديد من المسؤولين الإسرائيليين الرسمين إلى إظهار قدر من التفاؤل حول مفاعيل التطورات التي تشهدها الساحة السورية، في المدى المنظور.



سوريا «حسم تاريخي»


ينظر قادة الدولة العبرية، وفي مقدمهم بنيامين نتنياهو وإيهود باراك (الصورة)، إلى الأحداث التي تشهدها الساحة السورية على أنها تمثل «الفرصة التاريخية» التي يراهنون من خلالها على إسقاط الدولة التي شكلت عمقاً وقاعدة لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، وألحقت بالجيش الإسرائيلي هزائم تاريخية حقيقية. وفي هذا المجال، نقلت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي أنه ما من أحد من المفكرين في القيادة الأمنية الإسرائيلية إلا يكرر عبارة أن ما يجري في سوريا يعتبر «حسماً تاريخياً» بالنسبة إلى إسرائيل. كما وضعت خيار استهداف إيران ضمن الإطار نفسه، وخاصة «إذا كانت النتائج حقاً كما يقول المتشائمون، بأن عدد الصواريخ التي ستتساقط علينا ستكون أكبر بعشرة أو خمسين ضعفاً عما سقط علينا في الحرب السابقة (عام 2006). وأكدت القناة أن الأحداث التي شكلت حسماً تاريخياً كانت قليلة جداً في تاريخ الدولة (العبرية). ومن الأمثلة التي أوردتها... إعلان الدولة في عام 1948... واحتلال القدس وشق الطريق إلى النقب.