اللاذقية | موكب عسكري مهيب على طريق عام اللاذقية طرطوس صباح عيد الجيش يمنع تجاوز السيارات، في ظل الحديث عن 150 دبابة دخلت المدينة بهدف تجهيز تعزيزات تمكّن الجيش من التصدي لتحرّكات متوقعة لخلايا نائمة، بحسب أهالي المدينة. تهليل السكان لدخول الجيش المتأخر يظهر بوضوح على طول الطريق وهو ليس مستغرباً، فالجيش صمام أمان فقراء السوريين من سكان الساحل الذين لطالما تقدموا للتطوع في الكلية الحربية طلباً للقمة العيش، وحلماً بالمميزات المزعومة للضباط. لا تخلو عائلة، هُناك، من ضابط أو جندي يشارك في إعالتها وسط ظروف مجحفة أسقطت أحلامه.
يتحدث كلّ من تراه في اللاذقية عن معركة أخيرة ستدور رحاها في مدينتهم بعد معركتي دمشق وحلب، ولا سيما أن بوادر تلك المعركة بدأت بالظهور من خلال اشتعال اشتباكات في قرى الأقلية القومية التركمانية، معيدةً للأذهان معركة الحفة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، الأمر الذي تقابله مخاوف انتقال الشرارة إلى داخل المدينة. وعلى هذا الأساس فإن التسلح الشعبي في الخفاء لدى جميع الأطراف هو الآلية الدفاعية الوحيدة التي يملكها الناس أمام تأخر الدولة بالتدخل في بعض المناطق، وعلى بعض المحاور، كقضية الخطف والسلب المنتشرة بكثرة خلال الأشهر الماضية.
مناطق بأكملها تعوم على بحر من السلاح، إذ إن أهل اللاذقية بدأوا الاعتماد على مبدأ «قلّع شوكك بإيدك». وعليه، بات السلاح في الساحل يباع بأغلى الأسعار، بعكس ما يُروّج له عن قيام بعض رجال أعمال الساحل بتبني عمليات تسليح الأقليات، تمهيداً لحرب أهلية قد تحدث. هذا الواقع يعبّر عنه بوضوح فقراء الساحل السوري، ممن يشتكون من تضاعف سعر السلاح خلال الأزمة ليصل إلى أكثر من أربعة أضعافه.
أما العقلاء من أهل المدينة، فيرفضون الدعوات إلى التسلح، راضين أن يكونوا ضحايا مستقبليين على أن يكونوا قتَلة ومجرمين، ولا سيّما في ظلّ رواج تجارة السلاح في السوق السوداء، واستغلال تجار الأزمة لخوف الناس وفقدانهم الأمان.
عوامل عديدة دعت الناس إلى تشكيل لجان شعبية ترابط على حدود الأحياء والمناطق. كما دفعت الشبان إلى التطوّع في ما يسمى «الجيش الشعبي»، الرديف للجيش النظامي، بهدف التدريب والإعداد لأي طارئ.
يرى أبو نضال «السمان»، القاطن في حيّ المشروع السابع، أن الدولة مقصرة في التعاطي مع المسلحين الذين يتصيّدون جنود الجيش الوطني على الحواجز كـ«العصافير»، ممتعضاً مما جرى منذ أيام من إطلاق نار كثيف في معظم مناطق المدينة إثر اشتباكات بين المسلحين والجيش.
كلام أبو نضال يفتح الباب على تساؤلات خطيرة، فهجوم عناصر مسلحة على حواجز الجيش بهذا العنف وفي كل المناطق ينضوي في إطار التحضير لتهريب أسلحة إلى المعارضة، أو التغطية على عملية انشقاق مهمة. وهذا تماماً ما جرى في تلك الليلة من هجوم على جميع حواجز الجيش في المدينة بهدف إشغال الجيش والقوى الأمنية والتغطية على عملية انشقاق نائب قائد شرطة محافظة اللاذقية، العميد تركي قنيفلة، وتهريبه إلى مكان مجهول.
ولا يتوقف أبو نضال وجاره أبو محمود عن الشكوى من حالة القطيعة الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها المدينة. فأبو محمود قادم من منطقة العوينة الحاضنة للتظاهرات، شاكياً بشاعة القطيعة الاقتصادية في منطقة وسط المدينة، إذ يبدو السوق شبه مهجور في أقصى ساعات الذروة. معظم أهل الريف من المؤيدين يمتنعون عن ارتياد أسواق وسط المدينة، مستعيضين عنها بأسواق تمّت تهيئتها على عجل في مناطق أطراف المدينة، كمشروع الزراعة والمشروع السابع.
وليس خافياً على السوريين امتناع الإعلام الرسمي عن تناول المقاطعة الاقتصادية، باعتبار أول أسبابها متعلّقاً برفع شعارات طائفية خلال بداية التظاهرات في بعض المناطق، وهو ما لم يعهد السوريون، على المستويين الرسمي والشعبي، الخوض فيه. وفيما يظهر موقف أهل الريف قاسياً جليّاً بالمقاطعة، يبدو تجار السوق المتضررون بين ساخط على هذه المقاطعة وآخر هازئ منها، بينما الواقع يلوّح بالتالي: سوق التجار المكتظّ بالناس فارغٌ كشارع أشباح، وأصحاب المحال التجارية «يغرّبون خلف الرزق وهو مشرّق».
ناصر، تاجرُ أقمشة شاب من سوق التجار في وسط المدينة، يقول باستياء: «الصباح كالمساء. لا أوقات ذروة ولا من هم يحزنون. يمكن القول ببساطة: لقد فقدنا رزقنا، والوضع كذلك منذ سنة لا يتغيّر».
لغلاء الأسعار دورٌ في عزوف الناس عن هذا السوق، الذي يعتمد على بيع البضاعة التركية والمهرّبة تحديداً، وهو أمرٌ أصبح السوريون يبتعدون عنه، فمنهم من يقاطع البضائع التركية، بسبب موقف تركيا العدائي من بلادهم حسبما يرون، بينما أغلبهم لا يملك، أصلاً، ثمن حاجيات مستوردة أو مهرّبة.
ومع كثرة أسباب المقاطعة لسوق المدينة الرئيسي، ينفي عمار، صاحب محل ألبسة، حقيقة موقف من يقاطع بسبب غلاء الأسعار، قائلاً: «هنالك قطيعة واضحة ولا علاقة لغلاء الأسعار بالأمر. وقد وصل الأمر إلى حدّ أن قمت بإجراء كسر أسعار في كل المواسم. ووصل الأمر بي إلى بيع أي قطعة بمبلغ 500 ليرة (ما يعادل 7 $)، وكل ذلك دون جدوى. إذ إن معظم الناس لا يشعرون بالأمان للتسوق وسط المدينة في ظل الواقع المسلّح».
وعلى زاوية شارع الكرنك (سوق التجار) يقف أبو عبد الله، تاجر عجوز، أمام واجهة محله المفتوح يتأمل الشارع الفارغ من المارين. نظرته توحي بقلة الحيلة في ما يتعلق بتصريف البضاعة. يتحدث بخوف عن عناصر الأمن الذين قد يأتون في أي لحظة. وعند سؤاله عن مكان وجودهم، ولا سيّما أن السوق فارغ كلياً من المارين، يقول: «ما إن تشتعل رائحة إطار أو يعلو صوت متظاهر حتى يهبطوا من السماء».
يخرج ابنه من متجره ويحاول شرح «اختلاط الأمور على الجميع»، مبرراً للأمن تدخله لحماية الأرزاق ممن حاولوا منذ أشهر تكسير وإحراق المتاجر التي لم تشارك في الإضراب والثورة.
مدينة أدونيس وحنا مينة وبو علي ياسين وغيرهم باتت تمتلك كل مقوّمات الجولة الأخيرة من الحرب المنتظرة، فتمضي اليوم مدينة التقدميين الأوائل إلى جولة تحمل طابعاً مذهبياً إذا اشتعل، لن يسلم منه أي من السوريين.