دمشق | اليوم في سوريا، لا يضمن أحد بقاءه سالماً. لا مكان آمناً يلجأ إليه المدنيون، خوفاً من قذيفة أو رصاصة طائشة، نتيجة الاشتباكات المستمرة بين «الجيش الحر» من جهة، وأجهزة الأمن والجيش السوري من جهة أخرى. هذه الحرب المعلنة اليوم، حولت السكان المدنيين إلى سواتر ترابية، تحتمي خلفها أطراف القتال. في الليلة السابقة لأول أيام العيد، اشتعلت المواجهات في منطقة الحجر الأسود، والتضامن، والقدم وأطراف مخيم اليرموك، أجبر على أثرها عشرات المدنيين على النزوح، وافتراش أرصفة مخيم اليرموك وحدائقه وقضاء ليلتهم الأولى من أيام العيد في العراء.
«لم نجد مكاناً لنا في المدارس أو الجوامع التي ازدحمت بالنازحين مثلنا. عائلات كريمة من سكان المخيم آوت نساءنا وأطفالنا في بيوتها، بينما شاركنا الرجال أصحاب هذه البيوت النوم في الحدائق العامة»، يخبرنا أبو ناجي (57 عاماً) الذي استطاع الوصول إلى محطة انطلاق السومرية، محاولاً الوصول إلى مخيم خان الشيح ليستطلع الأوضاع، باحثاً عن مكان آمن، قبل العودة إلى اليرموك لاصطحاب عائلته إليه.
مقابر جماعية، تحفر وتردم على عجل. صور القتلى والأشلاء المبعثرة، رائحة الرعب والخوف المخيمة على سماء سوريا كلها، هذا ما وحّد السوريين في عيدهم، موالين كانوا أو معارضين، أثناء متابعتهم مسلسل موتهم اليومي، دون أن يجدوا مبرراً مقنعاً له. «إنها الحرب. الحرب وحدها هي من يوحّد السوريين الآن، مع أنها السبب المباشر للقضاء على البشر والحجر وكل شيء، أكثر مما تسعى إلى النصر أو الهزيمة»، يخبرنا مواطن سوري استطاع الوصول مع عائلته إلى محطة السومرية، ويضيف متسائلاً «سواء انتصر النظام على المؤامرة والحرب الكونية ضده، أو الجيش الحر والمعارضة المسلحة لتحقيق الحرية المزعومة، هل سيبقى الإنسان السوري سويّاً نفسياً ليتابع حياته بشكل اعتيادي، بعد كل الذي يشاهده ويعيشه الآن؟».
في حديقة الطلائع، القريبة من قصر العدل الجديد وسط أوتوستراد المزة، توزعت أعداد خجولة من المراجيح وألعاب الأطفال، التي عادة ما تنتشر في جميع حدائق دمشق وساحاتها أيام العيد. لولا هذا المشهد اليتيم لغابت بشكل شبه كامل طقوس الفرح والبهجة عن مدينة الياسمين. في ساحات الحديقة وزواياها، ازداد عدد الأهالي الذين خرجوا مع أطفالهم لقضاء ساعات من الفرح المؤقت «لعلّ الخروج من المنزل والوصول إلى الحديقة مغامرة خطيرة في هذه الظروف، لكن لم أستطع إقناع أطفالي بعدم اللعب والفرح اللذين اعتادوهما في أيام العيد. متى ينتهي هذا الكابوس والرعب اللذين نعيشهما الآن؟ ألا يخشى زعماء ورجالات الصراع والقتال على مستقبل وحياة أطفالهم؟»، يقول المواطن نزار الحمداني (42عاماً).
اللعبة المفضلة لأطفال دمشق اليوم، وربما لأطفال سوريا كلها، هي حمل البنادق البلاستيكية، وتبادل إطلاق النار، بعد تنظيم أنفسهم في مجموعات. يقلّدون ما يشاهدونه على شاشات الفضائيات المختلفة، «هناك الكثير من الأطفال يريدون شراء بندقية بلاستيكية. أسأل يومياً عن بنادق بلاستيكية تشبه الكلاشنيكوف، أو القناصة، أو قاذف الـ آر بي جي، وغيرها الكثير. ماذا نتوقع من هؤلاء الأطفال في المستقبل؟»، يخبرنا فيصل (29 عاماً) صاحب «بسطة» لبيع الألعاب.
في محطة انطلاق السومرية، تحتشد عائلات كثيرة نزحت من مناطق المواجهات والقصف. لكن سرعان ما تقطعت بها السبل، نتيجة ندرة وسائل المواصلات التي فرضها الطوق الأمني على دمشق. لدى سؤال إحدى هذه العائلات عن حقيقة الأمر، تأتيك الإجابة «هناك أخبار ومعلومات تناقلها سكان البلدة، عن هجوم متوقع وعمليات ذبح وسلب واغتصاب ستطاول الجميع». تسأل عن هوية الذي سيقوم بهذه الأعمال تكون الإجابة «لا نعرف. ليس لدينا علم. الجميع حزم أمتعته وحاجاته الضرورية ونزحنا جميعاً. لن ننتظر أن نذبح مثل أبرياء الحولة وترميسة وغيرهما. لا أحد اليوم يصدق ما يشاهده على قنوات الإعلام الرسمي، أو الفضائيات الإخبارية المعارضة للنظام السوري على حدّ سواء. الحقيقة الوحيدة هي الخوف والهرب وتصديق أيّ إشاعة أو أخبار تفيد بخطر وموت وذبح قادم لا محالة».
باسم أبو عبدالله، ابن منطقة الحجر الأسود، يقول «أعتقد أن السبب لهذه الظاهرة هو سهولة التعامل مع وسائل الإعلام، وتحديداً الفضائيات التلفزيونية منها، لكونها أصبحت في متناول أي شخص. أصبح كل شخص هو مؤسسة إعلامية متكاملة، لكن السبب الرئيسي هو ابتعاد التلفزيون الرسمي عن نقل حقائق موجودة على الأرض، بشكل مباشر أو دقيق، ما أفقد صدقيته مع غالبية الشارع». النازح إلى شارع بغداد في العاصمة دمشق يتابع قائلاً «من الممكن أن تشاهد خبرين متزامنين في اللحظة نفسها، على قناتين مختلفتين، بحيث ينفي أحدهما الآخر. هذا وحده كاف لازدياد حجم الخوف والقلق لدى سكان المنطقة التي تناولها الخبر». وحمّل الشاب السوري مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فايسبوك، مسؤولية كبيرة «في تواتر وزيادة سرعة انتقال الخبر، بغض النظر عن مستوى صدقيته، إنما عن طريق أهواء ناقل الخبر ومزاجيته. من الممكن أن يكون عن حسن نية أو سوء نية، من يستطيع التمييز وهو يعيش حالة رعب وخوف؟».
«المواطن السوري وقع ضحية التناقض بين الإعلام الخارجي والإعلام السوري الرسمي. فمن يتابع الإعلام الخارجي، ير أن كامل المسؤولية على الجيش السوري والأمن، ومن يشاهد الإعلام الرسمي السوري يتبنّ نظرية الإرهابيين والمسلحين»، يقول الإعلامي السوري حسن عارفة، واصفاً الحال التي وصلت إليها علاقة المواطن السوري بوسائل الإعلام المختلفة. ويسجل عارفة ملاحظاته على أداء مجمل الوسائل الإعلامية، «للأسف أصبح الإعلام اليوم في مرحلة العرض لا تقديم الأخبار والمعلومات، فكل وسيلة تتفاخر بعرض مقطع فيديو مليء بالعنف، دون توقع مدى الأذى النفسي والصدمة والخوف الذي يعيشه المشاهد بعدها». يؤكد الإعلامي السوري أنّ هذا ما يميز إعلام الثورة، الذي بدأ ينحدر إلى مستوى الإعلام الرسمي، «فهو مستعد لبث الشائعات بهدف الحرب النفسية، دون حسبان أبعاد هذه الإشاعات». وحمّل عارفة المسؤولية في هذه الظاهرة إلى الدولة ومنظوماتها الأمنية المختلفة، لكونها المسؤولة المباشرة عن حماية المواطن، ووضعه في كامل المشهد على الأرض إعلامياً، وتبليغه كامل المعلومات والأخبار الصحيحة مهما كانت خطورتها، «حتى لا يبحث عن قنوات اتصال أخرى، وهذا ما لم يوله النظام، ولا إعلامه، اهتماماً يذكر، لأن أي معارض في نظر هذا النظام هو إرهابي».