الخرطوم | الوقت لم يكن يقبل التمهل، وحواء تحاول جمع أغراضها قبل أن تهطل الأمطار التي بدت سحبها تتوعد سكان مدينة كادوقلي أو عروس الجبال، كما يحلو لأهلها تسميتها. فالرعد الذي اشتهر به خريف جبال النوبة وتُردّد صداه المرتفعات الجبلية لا يدع مساحة عناق بين السكان البسطاء في تلك الأنحاء وزخات المطر العنيف كطبيعة المنطقة.
عندما سئلت حواء عن شقيقتها بخيتة، التي تجيد صناعة أم جنقر، وهي نوع من القديد المحلي كانت تبيعه إلى جانب منضدة الشاي التي تديرها شقيقته، لم تبد اهتماماً كبيراً قبل أن تجيب بعد برهة «بخيتة ساهرت بنا ليلة البارحة في الكنيسة لإتمام مراسم زواجها من ابن خالنا». وحينما نظر معظم الحاضرين بعضهم الى بعض في صمت، وضعت حواء قارورة المياه جانباً بعدما فهمت السبب، وقالت «الأمر قد يبدو غريباً عليكم أهل الشمال، لكن بخيتة تزوجت مسيحياً كما أمي المسيحية التي تزوجت والدي وهو مسلم». وببساطة القرويات قالت «مش كلها أديان ربنا؟». حال التعايش الديني في منطقة جبال النوبة في ولاية جنوب كردفان السودانية، ربما تعبر عن الواقع الذي يعيشه أتباع الديانات المختلفة في السودان منذ القدم. ولا يعكر صفو هذا التعايش، بحسب ما يرى البعض، إلا موجات التطرف الديني التي ضربت أنحاء واسعة من البلاد وبدأت توسع نفوذها على حساب مساحة التعايش الديني. صحيح أنه لم يصل حد العنف إلى الآن، لكن يخشى الكثير من المراقبين الوصول إلى هذه المرحلة في حال نجاح الضغوط التي تمارسها جماعات متشددة على الحكومة السودانية لفرض دستور إسلامي، على أساس أن البلاد أصبحت إسلامية عربية. ويقول البعض إن ذلك يمثل تفكيراً يتصادم ليس فقط مع أتباع الديانات الأخرى غير الإسلام، وإنما ترفضه شرائح واسعة من السودانيين. ويقول رئيس القسم السياسي في صحيفة السوداني أحمد دقش، «إن العرف في السودان يعلو عند الكثير من المجتمعات السودانية على التقاليد الدينية أو قوانين الدولة الرسمية». ويرى أن حرية الاختيار متوفرة لدى تلك المجتمعات بدرجة كبيرة تجعل من الصعب على المتابع التمييز ما بين المسلم أو المسيحي إلا من خلال الفرائض الدينية التي يؤديها كل منهما.
وفي السنوات الأخيرة، ظهرت جماعات إسلامية بأفكار وافدة أصبحت تشكل مجموعات ضغط على الحكومة السودانية نظراً إلى التوجهات الإسلامية التي ينادي بها كل منها. ويوضح دقش أن «الضغط اضطر الرئيس السوداني عقب انفصال جنوب السودان إلى القول إنه بعد ذهاب الجنوب لا مجال لقول آخر، وإن الدستور سيكون إسلامياً مئة بالمئة». ويرى دقش أن تصريحات الرئيس السوداني أتت بعد موجة من التصعيد قادتها مجموعات متطرفة دينياً، مثل جماعة أنصار السنّة المحمدية ومنبر السلام العادل الذي يدمغه الكثيرون بالعنصرية.
الحكومة السودانية بدت منزعجة من التصعيد الأخير لتلك المجموعات، ولا سيما بعد التصريحات التي أدلى بها رئيس حزب منبر السلام العادل، الطيب مصطفى، خال الرئيس السوداني، وأكد من خلالها أن حزبه يخطط لوراثة المؤتمر الوطني الحاكم بغرض تطبيق الشريعة الإسلامية. واتهم الطيب مصطفى المؤتمر الوطني بأنه تراجع عن مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية.
أما أحزاب المعارضة السياسية فبدت غير مطمئنة على علو صوت التيارات التي وصفتها بالتكفيرية، حيث هاجم الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وزعيم طائفة الأنصار (الصوفية) تلك المجموعات. وقال إنها تمثل خطراً على التسامح الذي يتميز به المجتمع السوداني، مطالباً الحكومة برفع يدها عن تلك المجموعات وعدم رعايتها.
ولعله من الملاحظ أن كل الحروب التي تشتعل في أطراف السودان حالياً مثل جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور أو سابقاً مثل شرق السودان، لم يكن الدين واحداً من أسبابها، رغم المحاولات العديدة لبعض التيارات الإسلامية المتشددة الزج بعامل الدين ضمن سلسلة المعالجات. وتمثل ذلك جلياً في الحرب السابقة في جنوب السودان، ولا سيما عقب تولى الإسلاميين الحكم عبر الانقلاب العسكري عام 1989. وتبنت حكومة البشير في بدايات حكمها نهجاً إسلامياً متشدداً قاده مرشدها حينذاك حسن الترابي، قبل أن يعتذر عما ارتكبه جنوده وميليشياته في حق الجنوبيين بعد المفاصلة الكبرى بينه وبين الرئيس السوداني منذ بداية عام 1998.