ما الذي أتى بكِ بيننا حينها؟ ألم يكن الأجدر بنا أن ننظر حولنا ونرى ما لا نراه، وترينه، كي ندافع عن حقنا في هذه الأرض، كي نعود وننتفض؟ ألم نكن حينها قد اكتفينا وجعاً وغربةً كي نخرج من وحشتنا لندافع بشراسة عما هو لنا؟ أم أننا ننسى من نحن أحياناً لنتجاهل شقاءنا، لنثبت لأنفسنا أننا على ما يُرام، أننا نعيش بخير؟ أكان من الضروري فعلاً، بالنسبة إليكِ، أن نتذكر من نحن دوماً؟ وأن علينا أن نستفيق لحقٍ يضيع من بين أيدينا؟ أننا بحاجة فعلاً لمن يموت لأجلنا؟ لماذا متِ لأجلنا؟
أتعرفين أنني منذ عشر سنوات، ولم أكن أتجاوز السادسة عشرة من عمري بعد، كنتُ في عزّ مراهقتي أنتظر وردة الغاردينيا على بوابة المدرسة في كل صباح، بينما كنتِ أنتِ تجمعين الأطفال من حولك وتحكين لهم القصص. لم أسمع بكِ حينها ولم يكن يهمني أصلاً غير عبير الورد في الصباح مع أغنية فيروزية، «أشكل» الورد الأبيض بخصلات شعري المصبوغ صبغته الأولى، أوزّع الابتسامات، أصفف غرّتي، أتوارى عن نظرات ذلك الناظر اللئيم في مدرستي الثانوية، في حين كنتِ أنتِ، لربما، تواجهين أحد الجنود على أحد المعابر. كانت تنام وتستفيق الوطنية في داخلي بحسب المناسبات وأخبار الساعة والحدث. وطنٌ في داخلي لا يعرف ملامحه وحدوده، ومع ذلك استطعتِ إنتِ إليه سبيلاً رغم ضياع الحدود. ما الذين أتى بكِ الى داخلي؟ ألكي أنحني إجلالاً لأعجمية عرفت طريق فلسطين قبل أن أدركها؟ راشيل كوري، لقد انتصرتِ عليّ. لم يخب ظني بك، خاب ظني بي.
نعم، تنتصرين لي، وعليّ. تنتصرين وتثبتين للعالم أجمع أن سياسة الاحتلال لا تميّز بين عربي وأجنبي في حُب فلسطين، وتثبتين أنك أقوى من جنود الاحتلال من دون سلاح، فلو لم يخافوكِ، ما قتلوكِ. تنتصرين لمئات الضحايا الذين استشهدوا من دون ذنب في فلسطين ولبنان، تنتصرين لأسرى اعتُقلوا ظلماً وتعسفاً، هكذا علمك أبوك وأمك... شجاعان جاءا إلى فلسطين المحتلة ليلاحقا قضيتهما، ليستردا حقك وحقهما. تماماً كما علّماك سيذهبان الى النهاية وهما يمسكان كما في الصورة الواحد بيد الآخر. تخاطبين حكومتك في مماتك، تقولين لهم إن هناك أحراراً على هذه البقعة من الأرض يضطهدون، لا يمكن تجاهلهم، في حين لا يجرؤ حكامنا على مخاطبتهم. تحرجينهم في حين لم تحرجهم دماء الكثيرين من قبلك ومن بعدك. فبمَ ستعقب حكومتك على الحكم في قضيتك الآن؟ قُتلت راشيل جراء تهورها؟ قُتلت راشيل كما يُقتل غيرها كل يوم؟ كلا، لم يجيبوا بعد، ولكني أكاد أجزم بأنهم سيصمتون، ليضاف اسمك إلى أسماء شهداء من عندنا لا ينصفهم العالم، فنتذكرهم. فكيف لا أنحني إجلالاً لكِ إن كنتِ تشبهين ما أردت دوماً أن أكون؟