عمان | لا يمكن لأحد إنكار تأثير «الحرب على سوريا» على وحدة موقف الأردنيين تجاه الأزمة السورية. وبدا هذا الانشقاق أكثر وضوحاً وبروزاً في صفوف المثقفين والسياسيين والفنانين والحزبيين والصحافيين وغيرهم من القطاعات الثقافية والاجتماعية في مكونات المجتمع الأردني. ومنذ أن بدأت الأزمة السورية تأخذ منحاها من «تحرك سلمي» إلى «تمرد مسلح»، اصطفت القطاعات الأردنية الناشطة بين موقعين، إما مع الدولة السورية ونظامها السياسي، وإما مع «الثورة السورية» وكل ما يتبعها من تفاصيل.
وبين هذين الخندقين بدت خارطة المشهد الداخلي الأردني وكأنها تعاني من انقسام واضح في داخل معسكر المثقفين والسياسيين الأردنيين تحديداً، وما يجره ذلك من انعكاسات خطيرة على وحدة الموقف الشعبي الأردني.

ظاهرة الديموقراطيين «المفاجئة تماماً»

لعل من أبرز المفارقات الغريبة التي شهدها الأردن في ما يتعلق بالموقف من الحرب على سوريا، يتمثل في بروز مفاجئ تماماً لتيار من المثقفين والسياسيين حملوا لواء الدفاع عن الثورة السورية تحت شعار واسع وعريض يتضمن «التبشير بالحرية والديموقراطية السورية المقبلة في مواجهة دولة القمع والقتل والديكتاتورية المتمثلة بالنظام السوري». بدون أي مقدمات، ظهرت شريحة عريضة وواسعة من الأردنيين الذين يروجون وبقوة للخلاص من النظام السوري تحت عباءة الثورة السورية «الديموقراطية التي ستجلب الرفاه والحريات للشعب السوري».
وتبدو الصورة من الداخل غريبة بعض الشيء. فهذا القطاع الواسع من الاردنيين، الذي كشف عن عقائد جديدة، لم تكن معروفة من قبل تجاه تبني الديموقراطية والتبشير بها والدفاع عن الحريات ومناهضة نظام بشار الأسد، وإظهار التشدد السياسي وحتى العقائدي في دعم «الثورة السورية»، يثير الكثير من التساؤلات عن ماهية هذه الحركة الشعبية التي نشطت في صفوف النخب السياسية والثقافية والاعلامية فجأة ودون سابق إنذار يذكر.
ويلاحظ أن الامتداد العريض لهذه الشريحة لم يكن قد عبر عن نفسه بقوة إبان الثورة التونسية أو حتى التمرد العسكري الليبي، أو ما شهده اليمن من دماء وقتل، وصولاً الى تفاصيل الثورة المصرية. وقبل ذلك كله، فإن معظم أعضاء هذه الشريحة لم تظهر في المشهد تماماً عندما كان الطيران الاسرائيلي يقتل أطفال غزة ويهدمها على رؤوس أهلها، وقبل ذلك عندما كان العراق يتعرض لاحتلال أميركي مباشر وسط شلال دم من القتلى لا يمكن حصره.
ووسط هذه الملاحظات السريعة، فإن هذه الشريحة بدت وكأنها تملك قدرات جيدة على تنظيم سلسلة اعتصامات، حرص الاعلام المحلي الأردني والإعلام الفضائي العربي والعالمي على تغطيتها، عندما كانت تقف هذه الشريحة بكامل أطيافها السياسية والاجتماعية والوظيفية أمام السفارة السورية في منطقة عبدون الراقية للاحتجاج على الدولة السورية والمطالبة بطرد السفير السوري من عمان، وغيرها من المطالب الأخرى التي درج المعتصمون والمحتجون من أنصار التمرد السوري على رفعها أمام السفارة السورية في عبدون.
هذه الصورة كان يقابلها مشهد آخر، تتقاسمه شريحة أخرى من ذات الطبقات السياسية والاجتماعية والثقافية والوظيفية ترفع شعارات تندد بالتدخل الأجنبي في سوريا، وتعلن دفاعها عن وحدة التراب السوري ورفضها لأي تدخلات خارجية للقضاء على النظام السياسي في دمشق وتعبئة الفراغ بنظام جديد من ممثلي وأعضاء المعارضين السوريين.
بعض الاحتجاجات أمام السفارة السورية في عبدون، شهدت احتكاكات بين الجانبين. وفي احدى الحالات كانت هناك تهديدات مباشرة لأنصار دمشق من تيارات دينية متشددة باستخدام القوة ضدهم في حال استمروا بالتظاهر لتأييد الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي وقت مبكر جداً، بدأت النقسامات في صفوف المثقفين الأردنيين تأخذ منحىً خطراً وصولاً الى فرز قهري لا يحتمل الوقوف في المنتصف. رابطة الكتاب الأردنيين شهدت مبكراً انقساماً واضحاً بين مثقفين وكتاب وشعراء داخل جسم الرابطة نفسها بين من يؤيد المعارضة السورية، وبين من يؤيد الدولة السورية.
وفيما يستمر هذا الانقسام في فرض نفسه، فإن من أبرز التساؤلات التي يمكن طرحها تتلخص في محاولة فهم كيفية هبّة قطاع عريض من المثقفين الأردنيين لمناصرة «الانتفاضة» السورية، في الوقت الذي لم يسجل لمعظمهم أي نشاطات سابقة تتعلق بالحراك الشعبي الأردني أو حتى المشاركة بالتعبير عن دعمهم لمطالب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي رفعها الأردنيون مبكراً ومنذ مطلع عام 2011 الماضي وحتى الآن؟
أمام حالة الفرز على أساس الموقف من «النظام السوري» والموقف من «الثورة السورية»، بدأ المعسكران المناهضان لبعضهما البعض يتبادلان الاتهامات انطلاقاً من قاعدة تمركز كل منهما في مواجهة الآخر على حواف «الأزمة السورية». ولعل من أبرز ما يمكن التوقف عنده، البيان الذي وقعته قرابة ألف شخصية أردنية في الرابع عشر من شهر آب الماضي. في مقدمة الموقعين، كان المناضل الماركسي الأردني العريق د. يعقوب زيادين. ورأى البيان أن النظام الأردني أصبح «متورّطاً بصورة علنية في العدوان الغربي الأميركي التركي الخليجي ضد الجمهورية العربية السورية».
وجاء في البيان، الذي أثار ردود فعل غاضبة وناقدة، أن التورط الأردني في الحالة السورية عبر عن نفسه من خلال تضخيم حالة اللجوء السوري إلى الحدود الأردنية وتحويلها إلى وسيلة ضغط على دمشق، وتسهيل مهمات جهات أمنية أجنبية، وخصوصاً التركية والبريطانية لإمداد التمرد المسلح في سوريا بالمعدَّات والأموال وتجنيد الإرهابيين وتسهيل تسللهم إلى سوريا واختراق الأمن السوري وجمع المعلومات عن الجيش الشقيق.

الأحزاب وخلافات على المبادئ

لا يبدو حال الأحزاب الأردنية، أفضل كثيراً من حال المثقفين الأردنيين. ففي وقت مبكر جداً تعرضت الأحزاب الى عملية مشابهة تماماً لحالة هذا الفصل القسري في المواقف تجاه دمشق.
ويقف في واجهة الأحزاب المؤيدة للمعارضة السورية جماعة الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي. وتعتبر هذه الأحزاب أن ما يجري في سوريا حربهم الحقيقية في مواجهة «الباطل السوري المتمثل بالنظام في دمشق». ويتولى الإخوان المسلمون وحزب جبهة العمل الإسلامي الإشراف شبه الكامل على كل الفعاليات الشعبية التي تجري مقابل السفارة السورية من اعتصامات وشعارات وتحشيد، فيما بدت تحالفاتهم الحزبية ضمن ما يسمى «لجنة التنسيق العليا لأحزاب المعارضة» تدخل في نفق انقسامي واضح. فالشركاء الحزبيون للإخوان لديهم مواقفهم الغايرة، ومن بين هؤلاء الأحزاب القومية «البعثان السوري والعراقي»، والأحزاب اليسارية على نحو أحزاب الوحدة الشعبية وحشد.
هذه الصورة الانقسامية هي ذاتها التي تعرضت الأحزاب الأردنية لها إبان حرب احتلال العراق سنة 2003، فقد انقسمت الأحزاب في ما بينها تجاه الموقف من الإحتلال الأمريكي للعراق، وذهب الإخوان المسلمون للمشاركة في الحكم، الى جانب الشيوعيين العراقيين، وأصبحوا شركاء حقيقيون لحاكم العراق آنذاك بول بريمر وجنباً الى جنب مع مشاركة الأحزاب الشيعية العراقية. في خارطة الأحزاب الوسطية، فإن معظم الأحزاب الوسطية الأردنية تناصر «التمرد المسلح» في سوريا، لكون هذه الأحزاب تقوم بدور المبشر بالديموقراطية وبالحريات العامة.
ويلاحظ أن جميع الأحزاب الدينية الأردنية، وبدون استثناء، تقف موقفاً مؤيداً للتمرد السوري المسلح وتبشر بالخلاص من نظام الأسد في دمشق، وفي الخطابات التحريضية المعلنة فإن التبشير بـ«حرب طائفية» في سوريا، أصبح هو الخطاب الأكثر بروزاً لتلك الأحزاب وفي مقدمتها بالطبع خطاب الإخوان المسلمين وحزب جبهة العمل الإسلامي ثم حزب الوسط الإسلامي.

العاصمة ملتقى المنقسمين

تبدو العاصمة عمان، وتحديداً المنطقة المقابلة للسفارة السورية، نقطة الارتكاز الحقيقية التي يعبر فيها كل طرف عن موقفه تجاه «الصراع على سوريا وفي سوريا»، دون اللجوء الى توسعة الرقعة الجغرافية لهذه المواقف ونقلها إلى محيط آخر. وفي التظاهرات التي تنفذها الأحزاب وشركاؤها، في وسط العاصمة عقب صلاة كل جمعة للمطالبة بالاصلاح في الأردن، فإن التوافق على عدم إقحام الملف السوري في تلك التظاهرات بدا واضحاً، لكل المراقبين، وذلك بهدف المحافظة على وحدة المتظاهرين.
وفي مدينة مثل مدينة اربد القريبة من الحدود السورية، فإن عدداً محدوداً من التظاهرات المنددة بالنظام السوري تم تنفيذها بالفعل، إلا أن مناهضي التمرد السوري المسلح نجحوا أيضاً في ذات المدينة في تنظيم مسيرات وتظاهرات مماثلة. غير أن هذه الحالة لم تنتقل الى مدن ومحافظات الأردن الأخرى، وقد بقيت التكتلات الشعبية السكانية وفي مقدمتها العشائر الأردنية بعيدة تماماً عن هذه الظاهرة، بالرغم من توافر واضح لأعداد لا يمكن حصرها تتبنى كل منها وجهة نظر مختلفة عما تحمله الأخرى من مواقف تجاه ما يجري في دمشق.