القاهرة | يواصل المصريون على ما يبدو ادهاش العالم. فأكثر شعوب العالم تديناً، وفقاً لمركز غالوب الأميركي، هو نفسه الشعب الذي يمارس التحرش الجنسي علناً وعلى نحو جماعي في بعض الأحيان، إلى حدٍّ أصبح فيه التحرش طقساً مرتبطاً بالأعياد الدينية نفسها. حتى أن عيد الفطر الماضي، في المجتمع الذي يشكل المسلمون فيه الاغلبية العظمى، كان مناسبة استحقت أن تستبقها مبادرات للمجتمع المدني من قبيل مبادرة «فؤادة ووتش»، التي أعلنت عن تشكيل غرفة عمليات «تعمل على مدار الساعة بشكل طارئ لتلقي أي بلاغات من مواطنات/مواطنين عن وقائع تحرش جنسي أو لفظي أو انتهاك يتعلق بالمرأة خلال الاعياد».
ويمكن ارجاع أولى حوادث التحرش الجنسي الجماعي إلى عيد الفطر في العام 2006 في وسط العاصمة المصرية القاهرة، حين اندفعت أعداد غفيرة من المراهقين والشباب نحو أعداد متفرقة من النسوة يبحث كل منهم عن جزء من أجسادهن ليتحسسه، رافقها في حينه أحداث متزامنة في حي المهندسين الراقي. وكشفت هذه الحوادث أن «المعتدين من الشباب الفقراء وجدوا في التحرش وسيلة إلى جذب الانتباه»، حسبما أوضحت لـ«الأخبار» سهير عبد المنعم، خبيرة السياسة الجنائية في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وهو مركز تابع لوزارة التضامن الاجتماعي.
إلا أن واقع الأمر ربما يشير إلى أن الظاهرة ولدت على يد السلطة نفسها قبل هذا التاريخ بعام تقريباً. ففي أيار من العام 2005 استقدمت الشرطة عصابات من المأجورين تحرشت جنسياً بالمشاركات في تظاهرات في وسط القاهرة دعت إليها المعارضة لحث الناس على مقاطعة استفتاء على تعديلات دستورية أجراها لاحقاً الرئيس المخلوع حسني مبارك. وقالت خمس منظمات حقوقية وقتها إن الشهادات التي وثقتها مباشرةً من الضحايا ومن شهود العيان على الأحداث تثبت «أن ما اقترفه أفراد الأمن وعصابات الحزب الوطني (الحزب الحاكم وقتها) لم تكن أحداثاً متفرقة، وانما كانت تنفيذاً لتعليمات محددة استهدفت اذلال النساء». وأكدت هذه المنظمات أن «الهجوم على النساء في التظاهرات كان يحصل أمام أعين ضباط أمن يرتدون الملابس الرسمية وأحياناً بناءً على توجيهات مباشرة منهم». وبعدها انتشرت الظاهرة كالنار في الهشيم.
استخدام التحرش الجنسي من قبل السلطات في محاولة فض الاحتجاجات أصبح نموذجاً يتبع على ما يبدو. حتى ان مجموعات منظمة استهدفت المشاركات في تظاهرة نظمها نشطاء احتجاجاً على حوادث تحرش وقعت في حزيران الماضي، خلال الاحتجاجات في ميدان التحرير التي أعقبت احكاماً بالبراءة صدرت لصالح مساعدي وزير الداخلية السابق في قضية قتل متظاهري الثورة.
وتروي شيماء، الصبية العشرينية وابنة الطبقة الوسطى، كيف دفعتها حادثة تحرش تعرضت لها قبل نحو خمس سنوات لارتداء الحجاب. وقالت «حين كنت استقل وقتها حافلة في طريقي للمنزل... ولاحظت محاولة ثلاثة شبان التحرش بي استغلالاً للزحام، اضطررت للنزول من الباص، إلا أن الثلاثة تتبعوني ووجدتهم وقد أحاطوا بي في الشارع، وجذبني أحدهم من شعري ووصلت المنزل مصابة بهيستريا قررت على اثرها ارتداء الحجاب فقط كي لا يجذبني أحدهم من شعري مجدداً».
كذلك، كشفت صحافية بريطانية عن تعرضها لعملية تحرش جنسي جماعي بطريقة وحشية من عشرات الأشخاص في ميدان التحرير. وكتبت ناتاشا سميث في مدونتها الخاصة قائلة «تعرضت ملابسي للتمزق حتى جردوني من ملابسي، وازدادت عدوانيتهم مع مرور الوقت، المئات منهم تحولوا من بشر إلى حيوانات». وأضافت «صرخت فيهم قائلة (سلام سلااام .. الله الله) في محاولة يائسة لاستعطافهم دون جدوى».
ولم ينقذ سميث من أيدي المتحرشين سوى ما وصفتهم بـ«أقلية» من الرجال اجتذبوها إلى احدى الخيام في الميدان حيث أسعفتها بعض النساء وقمن بتغطية جسدها ومنحنها ملابس. وتضيف سميث أن البعض حاول اقتحام الخيمة لمواصلة التحرش بها.
لكن اللافت أن أحداثاً بهذا الانتشار من وجهة نظر المركز البحوث الاجتماعية والجنائية، «لا تشكل ظاهرة جديرة بالدراسة المجتمعية»، وفقاً لسهير عبد المنعم. اذ ترى أن التحرش الجنسي في مصر «لا يزال يمثل حالات مجتمعية منفردة مرتبطة بعوامل متشابكة أبرزها الفقر والبطالة وتأخر سن الزواج والإفلات من العقاب الى جانب الإنفلات الأمني بعد الثورة، الذي أدى الى تفاقم كثير من المشكلات التي يعانيها المجتمع المصري».
المركز المصري لحقوق المرأة، وهو مؤسسة غير حكومية، كان قد أعد مشروع قانون لمواجهة التحرش الجنسي ينص على «عقاب كل من تحرش بغيره سواء أكان ذكراً أم أنثى دون إرادته بالحبس مدة لا تتجاوز السنة وبغرامة لا تتجاوز ألفي جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين». ويكون التحرش حسب مشروع القانون المقترح «باللمس أو التتبع أو الملاحقة أو غيره وبألفاظ مباشرة جنسية أو خادشة للحياء أو غير مباشرة عبر التلفون أو الإنترنت أو إرسال رسائل تحمل صوراً أو نصوصاً أو نقوشاً جنسية». ويقترح مشروع القانون تشديد العقوبة في حال استخدم الجاني سلطة ما على الضحية أو استغل ظروف العمل أو في حال استخدم السلاح أو اقترف الجرم بحق قاصر أو معاق ذهنياً أو بدنياً أو مريض نفسي. أميمة كامل، مستشارة رئيس الجمهورية لشؤون المرأة، بدت متحمسة لصدور مثل هذا التشريع، لكنها رجحت ألا يصدر أي قانون في هذا الصدد قبل صدور الدستور الجديد. وأكدت لـ«الأخبار» أنها تنوي اقتراح اصدار دراسة موسعة عن الظاهرة على أن ترعى رئاسة الجمهورية اصدارها على نحو تتولى فيه التنسيق بين جهات الدولة المختلفة، مشيرةً في الوقت نفسه إلى أن قانوناً كهذا يجب أن ينتظر صدور الدراسة.
كامل، وهي عضو الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة، رفضت تصريحات سابقة نسبت لعزة الجرف عضوة مجلس الشعب المنحل عن الحزب نفسه ألقت فيها باللوم في حوادث التحرش على «عري» النساء. واستندت كامل الى نتائج دراسة صدرت عن قسم الطب الشرعي كلية الطب في جامعة القاهرة في العام 2000 عن اسباب التحرش الجنسي، لتؤكد أن مظهر النسوة يشكل عاملاً هامشياً في هذا الصدد.
وقد أكدت ذلك مشاركة في إحدى المدونات المعنية بمكافحة التحرش، مشيرة إلى أن «التحرش لم يعد مرتبطا بما ترتديه الفتياة من ملابس، فمن ترتدي النقاب تتعرض لما تتعرض له غير المحجبة من تحرش، كما أنه لا يقتصر على مرحلة عمرية معينة، فجميع الفتيات عرضة للتحرش في مصر».
نتائج ما توصلت اليه غرفة عمليات «فؤادة ووتش»، وفقاً لما أعلنت بعد العيد، تشير إلى أن التحرش الجنسي قد تعدى الحالات المنفردة، اذ قالت المبادرة إنها تلقت «إجمالي 53 مكالمة وتم التحقق من صحة 35 مكالمة من فتيات ونساء أعمارهن تتراوح من 18 وحتى 25 عاماً أبلغن جميعهن عن تعرضهن لحالات التحرش جنسي (باللمس لأماكن حساسة من أجسادهن)، إضافة إلى وابل من الكلمات البذيئة والهرولة خلف الفتيات من جانب المتحرشين، والتي وصفت بأنها حالات من الهياج والتحرش الجماعي الصادر عن صبية تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و18 سنة على الأكثر». كما شوهدت وقائع تحرش جماعية أمام سينما مترو (في وسط القاهرة)، فضلاً عن وقائع تحرش لفظي وجنسي بالفتيات والإناث بطول كورنيش النيل من أمام ماسبيرو (مبنى التلفزيون الرسمي بالقرب من ميدان التحرير في وسط العاصمة) وحتى منطقة المظلات (في محافظة القليوبية المتاخمة للقاهرة)».
آخر البيانات الصادرة عن المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية عام 2006 يشير إلى وجود نحو عشرين ألف حالة اغتصاب وتحرش جنسي ترتكب في مصر سنوياً، بمعدل حالتي اغتصاب أو تحرش كل ساعة تقريباً. أما بيانات المركز المصري لحقوق المرأة فتبين أن 68 امرأة من ضمن كل مئة تعرضن للتحرش الجنسي ــ البدني واللفظي ــ داخل محيط العمل. وتفيد نتائج استطلاع رأي أجراه المركز بأن 98 في المئة من السائحات الأجنبيات تعرضن للتحرش في مصر.
ومن بين 83 في المئة تعرضن للتحرش لجأت 2.4 في المئة فقط منهن لإبلاغ الشرطة. وقالت أغلبهن إنهن يعتقدن أن لا أحد يستطيع المساعدة في ذلك الشأن، بينما خشيت بعضهن من أن الإبلاغ عن التحرش قد يضر بسمعتهن. ورصدت الدراسة في هذا الصدد أن الغالبية العظمى من السيدات لم يفعلن شيئاً إزاء تعرضهن للتحرش.



خريطة التحرش


المبادرات الشعبية في مواجهة ظاهرة التحرش، ولا سيما عبر الانترنت، قد تكون مؤشراً على نهاية الصمت في هذا الصدد. قبل أيام من عيد الفطر، أطلق موقع خريطة التحرش الجنسي، يدعو الى تصوير أي حادث تحرش ورفعه على الانترنت لفضح الجاني والتعريف بمدى انتشار الظاهرة. كما يحث الموقع على استخدام الغرافيتي على الجدران في هذا الصدد والإبلاغ على الموقع نفسه عن حوادث التحرش الجنسي وإرسال تقارير بحوادث التحرش. كذلك وجه الموقع دعوة «لضباط الشرطة الشرفاء من خلال ائتلافاتهم على الإنترنت إلى دعم حملات المجتمع المدني والأفراد للتصدي لمشكلة التحرش الجنسي».
مبادرات ووسائل عديدة، لكن قليلا ما تكون كفيلة بمكافحة مثل هذه الظاهرة في غياب قوانين فعليّة رادعة.