كان الليل يوازي حبات العنب المتدلية من العريشة المنصوبة فوق الرؤوس كخيمة من ثريات بعيدة. وكانت الأصوات البشرية تتداخل، فلا تميز منها إلا نتفاً من كلمات لا تفيد معنى. صوت خفيض يدلّ على أن شخصا يكلّم شخصاً آخر بأمر لا يريد أن يسمعه الباقون. وبما يشبه اللامبالاة، يتدخل شخص من الخارج بشيء قد يكون تعليقاً، فيضحك له الجميع. المتحادثون بصوت خفيض يبدأون برفع أصواتهم دون انتباه. كأنهم رفعوا أصواتهم مضطرين، ربما لارتفاع الصوت العام في الخارج، تصرخ المتلقية للحديث لمحدثتها الخفيضة الصوت «هادا مش رجّال». لسوء حظها، تصرخ هذه الجملة بلحظة صمت كانت الضحكات فيها كامنة، فتسمع جملتها واضحة رنانة... لتعاود إثارة الضحك الشديد. وبعد محاولات عديدة، تنجح السيدة صاحبة الجملة في السيطرة على الوضع. تشرح أنها وزميلتها كانتا تتحدثان عن شخص جبان، وأنها استنتجت ذلك إثر موقف حدث وأثبت لها ذلك. عندها يبدأ الجميع في مطالبتها بحكاية القصة كاملة. ترفض، ثم تتواطأ نظراتها مع نظرات زميلتها صاحبة الصوت الخفيض متسائلة، لتبادر الأخيرة برواية ما سمعته قبل أيام. «محمد بائع الخضار في أول المخيم، الذي لطالما تفاخر بشجاعته في القتال. تأكّد الناس أنه يهرب كل يوم سراً إلى القرية القريبة ويصعد شلالها النازل من ارتفاع عال، مستعيناً بالأشجار وبسلّم خشبي مطروق بالمسامير على إحدى الأشجار».
«وماذا يعني ذلك، أكل من يصعد شلال القرية يصبح جباناً؟!» سألها أحدهم بتهكم.
القصة ليست هنا، تقول الفتاة. وتتابع روايتها «القصة لم تكتمل بعد...في قمة الشلال بقعة من الماء، يجلس عليها لينظر في الأفق إن كانت ستأتي عاصفة لتلقي به «بعيداً عن سجنه الغريب» كما يقول.
عادة لا يتوفق في ركوب العاصفة، ويعود أدراجه وكأن شيئاً لم يكن، وفي اليوم التالي يعاود المحاولة.
يعقّب أحد الموجودين بأن محمد الخضرجي هو من أكثر من تكيّف مع حياة الغربة بعيداً عن فلسطين. على الأقل، هذا ما يبدو عليه دائماً. ولكن يتضح أن محمد لم ينس بلاده أبداً، رغم أنّه متكيف مع سجننا هذا.
إذا فقد الساهرون محمد يوماً ما، فهم لن يستغربوا لأنه لن يحتاج إلا إلى مرة واحدة تأتي العاصفة فيها ليرحل معها. ولكن الساهرين يكملون ما كانوا قد بدأوه فتتداخل أصواتهم من جديد.
*من أعضاء فرقة الراب
الفلسطيني «كتيبة 5»