أول ما خطر ببالي حين وصلت إلى البيت، أن أفتح الإنترنت لأكتب على صفحتي في «فايسبوك»:
في غزة. ثم رسمت قلباً صغيراً بجانب هاتين الكلمتين، وكنت أتساءل لماذا لا يملك فايسبوك قلباً أكبر من هذا، بحجم الحب والشوق الذي بداخلي لمدينتي اليتيمة؟ هه؟ تُرى من اليتيم؟ أنا أم هي؟ لكن ليست هذه قصتنا.
طوال غيابي عنها، كنت أتخيّلها جنة. وكلما رأيت شيئاً جميلاً في طبيعة كندا حيث كنت، قلت بيني وبين نفسي «نعم، كل شيء جميل هنا، سبحان الخالق، ولكن الهواء في غزة مختلف! لا أستطيع التنفس هنا»، ثم يختنق صوتي، وأبكي طويلاً كبكائي تماماً حين كنت هناك بداخلها أتوق إلى السفر يوماً. أي تناقض هذا؟
نحن دائماً حالة استثناء في كل شيء: أيام الحرب، كنا نفكر في الأكل أكثر مما نفكر في الموت. نضحك في العزاء، نغني تحت القصف، نتمنى رؤية البلاد التي بعد البحر، وحين نذهب إليها، نجلس كالأيتام على الباب بانتظار الرجوع، كالطفل الذي يبكي على غياب أمه في أول أيام الدراسة!
يذهبون إلى النوم، وأذهب أنا إلى ذاكرتي... كقطة مُطيعة، كامرأة عاشقة، وأمشي فيَّ، أُقلِّبُ عناوين وعيوناً ووجوهاً. افتقدتُ نفسي! وافتقدتُ من أكرههم قبل الذين أحبهم.
غزة علبة الكبريت، كانت تُحاصرني بحصارات، وكلما قرأتُ خبراً عن وجعٍ فيها... خفت أن أُغلق عينيَّ فأسمع بكاءها في قلبي!
هه! وقصة الطائرات قصة أُخرى: حين كنت أسمع صوت تحليق طائرة... أنتظر على حذر سماع دوي ضربتها، لأُخمِّن أين وقع القصف! لكن، أن يكون الصوت لطائرات تحمل المُسافرين لا الصواريخ، لم أكن أستطيع الاستيعاب. وفي أول أيامي هناك، كنت أستيقظ مُسرعة لأشحن جوالي، فأضحك على نفسي حين أتذكر أن الكهرباء هناك لن تنقطع للحظة!
هناك اكتشفت أننا كأسرى ضيَّعوا عمراً في السجن، وحينما أُفرِجَ عنهم، خافوا من الشمس، وتغطُّوا بظلال السجن مرة أُخرى، وأن الحصار ليس إغلاق معبر وطريق، الحصار: هو الموت السريري البطيء الذي نعيشه يومياً في غزة ونُدمنه! أينما ابتعدت أثقل قلبك به. طوال الليل كنتُ أتأمل الشوارع الطويلة التي تنتهي بشجر وإشارات مرور، وتخنقني الحرية! كيف ذلك؟ ربما لانتمائي الشديد إلى غزة، خوفي عليها من زوجات أبيها، قلقي على أهلي وأصحابي من خبرٍ سيّئ. شوارع غزة، أماكنها، كل طريق، كل بيت... الناس! وربما كانت تصيبُني حالة حصار داخل ثوبي الغزِّي. طريقة نظر البعض إلى حجابي وكأنه شُبهة عظيمة، خصوصاً إذا ذكرنا شُبهة الإرهاب هُنا!
أما أن تُصادف اليهود في كل مكان تحلّ به؟ فهذا ما كنتُ بحاجة إلى ربط حجارة على قلبي لأستطيع بلعه. مميزون هم بالقُبعة الصغيرة خلف رؤوسهم. ما إن أراهم حتى كانت تتسارع صور شهدائنا وأطفالهم، كانوا يُذكرونني بمحمد الدُرَّة وإيمان حجو. تقتلني الصور التي تقف فاصلةً بيني وبينهم. الدم يُشوّهها وسائل لزج في عيني. كان يستفزني جداً وُجودهم، حتى إنني فكرت مواسية نفسي ما إن عُدت إلى غزة، في أنني بعد كل ما عشته في كندا من تجارب كهذه، فإن ذنوبي كلها غفرت.
لن أعتب على أحد حين لا يُصدِّق انتمائي الغريب إلى غزة، لكنني مُتأكدة من أن كثيرين من أهلها سيعرفون أي وجع هذا الذي مررت به. أقولها وبصدق: «نعم... الحمد لله رجعت إلى غزة!». على الأقل تجد من يُؤازرك في حصارك هنا، ويعرف جيداً معنى أن تكون مدينتك مدينة التناقضات، الحياة والموت، وتحبها مع ذلك أكثر من نفسك!