تشبه جدتي، رحمها الله، أطباء عيادات وكالة الأونروا كثيراً، أو ربما يمكن القول إن أطباء الوكالة هم من يشبهون جدتي. فجدتي أقدم من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين المولودة عام 1949. فالمرحومة الحاجة أم محمد كانت تنصحنا دائماً، ومهما كانت خطورة المرض الذي نعاني منه، بدواء واحد أحد ألا وهو ...«السفن آب»! فبالنسبة إليها كان هذا المشروب الغازي علاجاً لكل شيء، بدءاً من وجع الرأس، الإسهال، وصولاً إلى الغثيان، والحمى. ولو كتب الله لجدتي أن تعيش أكثر لأصبح «السفن آب» بالنسبة لها دواءً حتى للسرطان والإيدز... وهكذا بالضبط كان أطباء عيادات الأونروا. فمهما كانت خطورة المرض الذي يعاني منه اللاجئ الفلسطيني، كان ما يصفونه من علاج لا يتعدى في غالبية الأحيان حبة دواء «فلت» لونها أبيض ومجهولة الاسم وباقي «الروشتة»، من المفترض أن تكون علاجاً لكل الأمراض التي تعصف بجسد الفلسطينيين في المخيمات. هي بالتأكيد ليست كالسفن آب، لكن لم يكن أحد يدرك ما هي. قد تكون تلك الحبة السحرية مسحوبة من علبة اسبرين، أو بنادول، أو حتى من علبة سكر، لكن ما هو مؤكد أن مفعولها النفسي بالنسبة للمرضى كان أقوى بالتأكيد من مفعولها العلاجي.
وما زلت أذكر حتى اليوم كيف أنني كلما عانيت من أعراض مرض ما، كنت أذهب ووالدتي إلى عيادة الوكالة في مخيم برج البراجنة. زيارة العيادة كانت مرضاً بحد ذاته، ومشقة الانتظار والرحلة كانت تنسيك مرضك أصلاً. فالذهاب إلى عيادات الأونروا كان يتطلب إعداداً مسبقاً، مثل تجهيز الهوية الفلسطينية، والتأكد من وجود «كرت الإعاشة» الذي هو بمثابة بطاقة تأمين صحية فلسطينية، والنوم باكراً للاستيقاظ في تمام الساعة السادسة، لنكون هناك عند الساعة 7.
حضورك الى العيادات باكراً ضرورة ملحة. فكل «نص ساعة» تأخير صباحاً ستجعل انتظارك لمقابلة الطبيب يطول لأكثر من ساعتين، إذ قبل أن يعاينك الطبيب عليك أن تسجل اسمك، وأن يتأكد الموظف أنك تملك كرت إعاشة، ما سيخفف عنك تكاليف المعاينة. بعد إتمام كل هذه الإجراءات تحصل على رقم لانتظار الطبيب. بالطبع تبدو القصة سهلة. لكن على أرض الواقع تختلف الأمور كلياً. فأنت تعتقد، يا مسكين، أنك الوحيد الذي أتى باكراً، فتأمل أن انتظارك لن يطول كثيراً. لكنك عندما تصل الى بوابة العيادات الزرقاء ستجد عشرات الاشخاص حاضرين هنا، ما يعني أنهم نُصحوا النصيحة نفسها، وبالتالي أتوا باكراً هم أيضاً، معتقدين أنهم سيكونون أول الحاضرين هنا، وأن انتظارهم الطبيب لن يطول. لكن وبحضوركم جميعاً إلى هنا، أي إلى عيادات الوكالة، ستكونون قد شكلتم زحمة كبيرة، وأعطيتم لموظف الأونروا الموكل بتسجيل أسماء الحاضرين حجة للصراخ والتأفف من هذا الازدحام.
هكذا، بعدما يفتحها الله وموظف الأونروا في وجهك، تجلس في انتظار مناداة اسمك ورقمك لمقابلة الطبيب. في الانتظار يقتلك اليأس ويتملكك شعور بـ«الخنقة» من ألوان الجدران الزرقاء المائلة الى الرمادي من جهة، وتعتريك حالة من الغثيان لرائحة المطهرات التي تختلط برائحة الأطعمة المنبعثة من المنازل الملاصقة من جهة أخرى. لكن كل ما ذكر يمكن وضعه في كفة وصراخ النسوة وبكاء الأطفال في كفة أخرى، وبالطبع لا تنس أنك تعيش كل شيء يجري من حولك وأنت مريض.
بعد هذه الرحلة وانتظار ما يقارب ساعة، تدخل الى عيادة الطبيب. يسجل الرجل اسمك. يسألك أين تشعر بالألم. يفتح لك فمك. «قول آه» تقول «آآآآآه». انتهت المعاينة وتشخيص المرض، بأقل من خمس دقائق. يكتب لك وصفة، ويطلب منك أخذ الدواء من العيادة الملاصقة لمبنى العيادات. تذهب إلى هناك يعطيك الممرض مظروفاً أبيض فيه حبات الدواء السحرية التي يأخذها جميع المرضى، حتى أولئك الذين يعانون من أمراض مستعصية.
حالياً، وبسبب عملي في الجريدة، امتلك بطاقة تأمين صحية. لم أجرؤ يوماً على استخدامها، إذ إن تجربة الأونروا وكارت الإعاشة الخاص بها وكذبة مجانية الطبابة لا تزال راسخة في ذهني. ففي إحدى المرات «أكلت سكينة» في ركبتي، سبّبت جرحاً تطلب تقطيبه ثلاث قطب. ذهبت الى مستشفى حيفا في المخيم، وبالطبع في يميني كارت الإعاشة. هناك بشرتني الممرضة بأنها ستقطّب الجرح بدون مخدر. لماذا؟ «لأنك رجال عمرك 18 ويمكنك أن تتحمل الوجع»، وهذا ما جرى. بالطبع مجانية الاستشفاء كانت كذبة. ودفعت مثل «الشاطر» 50 ألف ليرة لثلاث قطب و«إبرة كزاز». ولذلك فإن بطاقة التأمين لا تزال منذ سنتين في محفظتي: شكلها جميل، والأرجح أن مفعولها أجمل، لكنني حتى الآن، رغم من الأمراض التي ألمّت بي، لم أجرّبها، فأنا ما زلت أخاف من تكرار تجربة الأونروا التي حفرت «في الصغر كالنقش في الحجر».