الإسكندرية | قنبلة جديدة تفجر جدلاً في مصر، وتشعل صراع الهويات الدائر في برّ المحروسة، بين الأقطاب المختلفة، لكنه هذه المرة ليس جدلاً بين الإسلاميين وعلمانيين، بل بين من يوظفون أرقام أتباع الديانات لاستخدامها ضمن توجهاتهم وأهدافهم؛ إنه الجدل الذي يستعر على خلفية تعداد المسيحيين في بلاد الفراعنة. لأول مرة منذ حوالي 26 عاماً، أعلن رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، اللواء أبو بكر الجندي، التعداد الرسمي لمسيحيي مصر، عبر قناة «التحرير» المصرية مساء الإثنين الماضي، مؤكداً أنه لا يزيد على 5 ملايين و130 ألف مسيحي، من جملة 83 مليوناً و150 ألف نسمة في مصر في العام الحالي، لافتاً الى أن الأقباط هم الأكثر هجرة خارج مصر، والأقل إنجاباً والأعلى دخلاً.
لم يكد يمضي الوقت القليل حتى تراجع الجندي عن إعلانه، قائلاً إن ما نُسب إليه عن عدد الأقباط في مصر «لم يكن معبراً عن حقيقة ردّه على السؤال». ورغم أن حديث الجندي كان مسجلاً بالصوت والصورة، فإنه قال: «إجابتي كانت عن آخر بيان مرصود عن عدد المسيحيين والمسلمين في مصر عن تعداد عام 1986، وكانت نسبة الأقباط تبلغ 5.7 في المئة»، وإن «الجهاز ليس لديه رصد لبيان الأقباط منذ ذلك الحين». وأكّد الجندي أن الدولة توقفت عن إعلان تعداد المسيحيين، بسبب توصية خرجت من لجنة الإحصاء الدولية بالأمم المتحددة، تقضي بعدم إعلان الإحصاءات للحالة الدينية، على اعتبار أن الدين أمر خاص بين العبد وربه، وسموّ بالحالة البشرية، لا سيما أن ما يقرب من ثلثي سكان العالم ليس لديهم معتقدات. قبل أن يضيف «ومن ثم، لم يعد ذكر الديانة أمراً ملزماً في استمارة الإحصاء السكاني التي تُجمع من خلالها البيانات الخاصة بالسكان، وهو ما مارسه بعض السكان في تعداد 1996 و2006»، مشيراً الى أنّ الأرقام تعلن وفقاً لاحتياجات الدولة أو طلب الجهات الرسمية لها، وأنّ بعض الاحصاءات تكون سريّة لوقت معين أو طبقاً للظروف، دون أن يحدد الظروف التي دعت لإعلان تعداد السكان المسيحيين في الوقت الحالي.
وخلال البرنامج أعلاه، ذكر الجندي أنّ أول إحصاء في مصر أجراه الاحتلال الإنكليزي عام 1882، وكان الأقباط يشكلون فيه 8.1 في المئة من تعداد السكان. وظل الإنكليز يجرون الإحصاء لسكان مصر حتى عام 1937، وكان تعداد المسيحيين في كل عام يتناقص عن العام السابق له سواء أثناء تنظيم الإنكليز له، أو بعد ذلك، حتى وصل آخر الأمر الى 5.7 في المئة، وهو التعداد الـ11، الذي أُجري عام 1986.
ورغم تراجع المسؤول المصري، وتضارب تصريحاته في الحالتين، فقد آثارا ضجة وجدلاً كبيرين، وخصوصاً أن الدولة لم تفصح منذ مدة عن تعداد الأقباط في أي مناسبة، وكأنه سرّ حربي، وتركت الأمر برمته للتوقعات ولساحات التلاسن بين المسيحيين والمسلمين على صفحات الشبكة العنكبوتية وللباحثين المستقلين وللكنيسة.
وطوال هذه المدة، المراقب خارج مصر يسمع أرقاماً في غاية التناقض؛ فبعض القساوسة وعدد من أقباط المهجر قالوا إن عدد الأقباط يصل الى 25 مليوناً، بينما يذهب بعض المسلمين إلى القول إنهم (الأقباط) قرابة 3 ملايين نسمة. وبين هذين الرقمين تتنقل أرقام كثيرة، إلا أن الحال استقرت عند كثير من المؤسسات، على أن عددهم ضمنياً يقارب الـ10 في المئة من سكان مصر، أي نحو 8 ملايين. وهو رقم متوسط، يحاول مستخدموه مسك العصا من النصف ومذكور في موقع «الويكيبيديا».
ومن تجلّيات ردود الأفعال على تصريحات الجندي، إقامة رئيس منظمة الاتحاد المصري حقوق الإنسان، نجيب جبرائيل، أول دعوى قضائية بمجلس الدولة لإلزام الحكومة بحصر عدد المسيحيين في مصر، من خلال قاعدة بيانات مصلحة الأحوال المدنية تحت إشراف ومتابعة دوليين.
من جهة ثانية، رحب إسلاميون بالاحصاء، معتبرين أنّه جاء تأكيداً لإحصاء مركز «بيو» الأميركي، الذي أعلن في تشرين الأول الماضي، أنّ تعداد الأقباط في مصر بلغ 4.5 في المئة من سكانها، وكذلك لإحصاء الفاتيكان الذي قدر نسبة الأقباط ما بين 6 و 8 في المئة، واعتبر أن نسبة الأقباط شبه ثابتة منذ 60 عاماً بالنسبة للمسلمين لفارق عدد المواليد لصالح المسلمين.
الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، بوصفها الكنيسة الأم في مصر، رفضت هذه الإحصائية على لسان القمص أنجليوس إسحاق، سكرتير قائم مقام البطريرك الأنبا باخوميوس، باعتبارها غير دقيقة. وأبدى إسحاق دهشته من الإحصاء، مطالباً رئيس الجهاز بذكر أرقام المسيحيين في كل محافظة منفردة.
التوقيت الذي أُعلن من خلاله هذا الرقم، والطريقة التي خرج بها، كانت مليئة بالدلالات؛ فالرئيس محمد مرسي يزور الآن الولايات المتحدة ويلتقي مع أعضاء المنظمات الإسلامية والمسيحية واليهودية، ليؤكد أن مصر مدنية وليست دينية أو علمانية، في وقت تحدث فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما عن «استهداف المسيحيين في مصر». كما أن جدلاً كبيراً يدور في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور حول مادة الشريعة الإسلامية، وسط تأكيد الإسلاميين، السلفيين منهم، على أن تضمين أحكام الشريعة وليس مبادئها من مطالب المجتمع، مطالبين بالاحتكام للشعب.
دلالات أخرى تتعلق بحديث العلمانيين عن وجود أقليات دينية كثيرة، وبالتالي فإن خيار العلمانية هو الأنسب للمجتمع الفترة المقبلة. فيما تتحدث العديد من المنظمات الحقوقية المسيحية عن مناصب لا بد من مشاركة المسيحيين بها بما أنهم يشكلون نسبة كبيرة في المجتمع، وبالتالي يجب أن يكون لهم «كوته» من المناصب.
كل هذه الملابسات وطريقة الإعلان في أحد برامج «توك شو»، دفعت المراقبين الى اعتبار أن التوقيت «سياسي ومقصود». ورأى سكرتير المجلس المالي للكنيسة الأرثوذكسية بالإسكندرية، الدكتور كميل صديق، في حديث لـ«الأخبار» أن «التوقيت سياسي بامتياز، وهذه إحصائية سياسية وليست رقمية، وتخدم أهدافاً معينة لتوجه معين»، معلناً «رفضه للإحصائية». واعتبر أن «الرقم غريب جداً، ولا نعترف به ويفضح أموراً كثيرة، وخصوصاً أن العدد كان سرّاً حربياً، ويهدف إلى أن يتقبل رجل الشارع مقولة أن المسيحيين قلة عددية لا يترتب لها حقوق كبيرة استناداً إلى قاعدة النسبة والتناسب»، متوقعاً أن «يكون عدد المسيحيين في مصر ما بين 12 و15 مليوناً داخل مصر و2 مليون في المهجر»، متسائلا بتهكم «هل يأخذ المسيحيون في مصر وسائل منع الحمل وتحديد النسل؟»
أما الباحث في شؤون المواطنة سليمان شفيق، فقال إن «الجدال بين الدولة وعدد من الأقليات هو درب من الهيافة المطلقة، لأن فكرة الأعداد لا تعبر عن الفاعلية والكفاءة؛ فاليهود عددهم أقل من 20 مليوناً في العالم، لكنهم يمتلكون إرادة سياسية، على أكثر من نصف سكان العالم، والفقراء يمثلون ثلاثة أرباع سكان العالم، لكنهم لا يملكون شيئاً في هذا العالم». وأكد شفيق أنه «لا أرقام الكنيسة صحيحة ولا أرقام الدولة»، معتبراً أن «الصراع على فكرة الأرقام يعود بنا إلى فكرة القبيلة، في عصر ما قبل الدولة حيث كان الاستناد دائماً الى العصبية والعائلة والعدد، وكانت الكثرة تهزم الكفاءة».
واعتبر الباحث المصري أنّ تعداد الأقباط لا يهم، سواء كانوا 10 أفراد أو 10 ملايين، «فالأقباط لهم مطالب عادلة تتلخص في الحصول على المواطنة الكاملة»، لافتاً الى أنه وفق تقرير سابق صدر عام 2010 من وزارة القوى العاملة، فإن المسيحيين في مصر يمتلكون 31 في المئة من الثروة القومية، معتبراً أن الهدف من وراء ظهور الإحصاء في الوقت الحالي هو ضرب مسيرة المواطنة، ومخاصمتها.