كلهم دخلوا «الجنة» إلا أنا. كلهم عاشوا ذكريات جدتي وجداتهم، إلا أنا. داسوا ترابها وشموا هواءها، إلا أنا. ليست المرة الأولى التي يغضبني فيها ذهاب مجموعة إلى فلسطين من دوني، لكن هذه المرة كانت مختلفة. كنت موعودة بالذهاب، لكني لم أفعل.
أكدوا ألف مرة أنه يمكننا اعتبار أن تصاريح دخولنا إلى رام الله باتت في أيدينا، وقالوا إن تأخرها هو لأسباب لوجستية لا أكثر. لكني لم أستطع حزم حقيبتي، كأني علمت أني لن أذهب. صديق آخر فضّل عدم حزم حقيبته حتى اللحظة الأخيرة. أما محمود، فحزم حقيبته قبل ثلاثة أيام وتركها في السيارة، لأنه كان يعلم علم اليقين أنه ذاهب. على كلٍّ، هما ذهبا مع الآخرين، إلا أنا.
كنت أحلم كيف سيكون ردّ فعلي عندما أعبر الجسر. كنت أبكي، في الحقيقة وفي الحلم. ماذا سأقول لأصدقائي الذين أراهم أول مرة على أرض الوطن؟ هل سنبكي عند اللقاء الأول أم سنضحك؟! خططت لزيارة بيت لحم وبيرزيت، ومخيم دهيشة وجنين، وتذوق كنافة نابلس، رغم أنني لا أحب الكنافة. لكن أصدقائي فعلوا كل ذلك وأكثر، إلا أنا.
عندما عادوا... غريب! كيف أقول إنهم عادوا إلى لبنان، وهم عادوا إلى فلسطين، ولو لأسبوعين فقط. المهم عندما جاؤوا إلى لبنان بدوا مختلفين. لا أدري كيف، لكن مختلفين. سعداء لكن مصدومين. كمن كان في حلم سعيد واستفاق على كابوس. كيف لا وهم من دخلوا الجنة، ثم عادوا إلى الجحيم.
«ليه ما بقيتو بفلسطين؟» أسأله ممازحة وجادة. يجيب «فكرت، ولكن القرار لم يكن سهلاً». وكأنه يلومني على سؤالي، «قلت إذا بقيت هناك، ممكن ما عاش يطلّعو حدا من هون». لم يتغير جوابه في كل مرة أسأله عنها، فدائماً: «فلسطين جنة، أريحا شوب كتير... نار. أرض ملعونة عن جد. بكرا بس نحرر البلاد بنحط اليهود فيها. رام الله بتشبه بيروت، بس غير. يعني... فيكي تقولي الناس غير. مع أنو أنا مش من رام الله، بس حسيت إني ببلدي مش غريب. على فكرة، الكنافة بنابلس كتير طيبة، والسوق حلو. وبيرزيت رائعة، العنب والتفاح كتير طيب، كنت بدي اجيبلك بس ما لحقت. وبيت لحم حلوة كتير. بس أنا ما شفت الكنيسة (القيامة) كلها. لأنو مشينا مع مجموعة أجانب وقلهن الدليل انو المسيح كان ملك اسرائيل، اخدت موقف وما كفيت معهم. آه وأهل الخليل نهفة، وعقلهم صعب، بس بشتغلو كوفيات وشغل على الإيد حلو».
أنا: «أول شي أكيد رام الله ما بتشبه بيروت، لأنو ما في شي بفلسطين بشبه أي مكان تاني. بعدين يا عمي ما عم تفهم عليّ، يعني كيف ريحتها؟ بتشبه اللي بحكو عنو الختيارية؟».
هو: «أول ما تشوفيها ما بتستوعبي، بتحسي بغصة وبتنقهري، بس بتكوني مبسوطة. شعور غريب. الطقس فيها غير شكل، برود. فلسطين أحلى من كل شي بحكوه الختيارية. الضفة حزينة. الناس مهمومة. يمكن نحن شفناها أحلا من حقيقتها، لأنو نحن لاجئين. مش قادر أستوعب اني رحت واجيت».
انا: «طيب والقدس؟ شو حسيت بس دخلتوا القدس؟».
هو: «سامعة تميم البرغوثي لما يقول في القدس ما في القدس؟ كيف بوصفها؟ هاي هي القدس. بس تصلي بالأقصى بتحسي بخشوع غريب.. بتحسي حالك عن جد بين ايدين الله. كان بدي اشوف الصخرة واحسّها بس ما قدرنا، كان يوم مخصص للنسوان. قالتلي وحدة انو بس تحط ايدك على الصخرة بتحس بمكان دعسة الرسول (محمد). بتشوفي كتير يهود بالقدس، بس ببطلو كتير يهموك، لانو القدس اكبر منهم، عرفتي كيف؟».
انا: «وبس طلعتو على حيفا ويافا خفتو يوقفوكن الاسرائيلية؟».
هو: «لأ ابداً. برجعونا ع لبنان راس مالها. بعدين بس تفوتي لجوا بتنسي الدنيا. الطريق ليافا بجنن، شجر وخضار وطقس روعة. ع فكرة سبحنا ببحر يافا بالليل، ومن هناك جبتلك الصدف. ومش طلعت نص حيفا لجدي؟ جدي طلع اقطاعي عن جد».
انا: «وشو حسيت بس شفت بيت جدك؟».
هو: «بحسرة، انو نص حيفا لجدي، وانا هون (بلبنان) مشحّر. المهم اكلنا فول عند واحد اسمو ابو حسن بيافا. بتلاقي اليهود واقفين بالصف والعرب بفوتو بلا دور. قالولنا ان كذا مرة العرب يعملو مشكل مع اليهود، واليهود ياكلو قتلة، فصاروا هني يوقفو بالدور ونحن نفوت خط عسكري. وكمان طلعنا ع طبريا. بس كانت الدنيا ليل ما شفنا منيح. والتقيت بواحد بقربني واخدنا جولة بحيفا وفرجاني املاك جدي. جمّعنا شي الف صورة. بجيبلك ياهن المرة الجاي».
انا: «وشو صار معكن كمان بفلسطين».
هو: «ما خبرتك كل شي بالتفصيل الممل للمرة الالف».
انا: «عيد، ما انا ما رحت وما شفت. وأصلاً نسيت تقولي انك عملت مقلب بخالتك وما قلتلها انك رايح لعندها. وما قلتلي كيف فتوا على 48. وما خبرتني عن الصلاة بالحرم الابراهيمي، ولا عن الختيار بيافا اللي قارئ اكتر من الف كتاب، شو نسيت كيف قلتلي انو شوارع يافا كلها بوجهو! وكمان ما خبرتني عن الحي المهجور بيافا القديمة اللي بسكنو فنانين اسرائيليين.. ارجع عيد».
هو: «ما صرتي حافظة كل القصة!».
انا: «رح اضلّ اسأل لحتى اروح، احكي».
هو: «اول ما فتنا على الجسر...».