باريس | غيّب الموت عن 83 عاماً الرئيس الجزائري الأسبق، الشاذلي بن جديد، بعد صراع طويل مع المرض. وكان بن جديد قد حكم الجزائر ١٤ عاماً، منذ أن خلف الرئيس هواري بومدين مطلع عام ١٩٧٩ إلى حين تنحيته من قبل الجيش، على أثر «الانقلاب الأبيض» الذي عطل فوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية. واضطر بن جديد إلى تقديم استقالته في ١١ كانون الثاني ١٩٩٢، لقطع الطريق أمام تجربة المساكنة التي أعلن أنه سيقبل بموجبها تعيين حكومة من الأغلبية البرلمانية الجديدة التي أفرزتها صناديق الاقتراع، في ما اعتبر آنذاك أول تجربة انتخابية حرة في البلاد.
ومنذ رحيله عن الحكم، توارى بن جديد نهائياً عن الأنظار، ولم يسمع له أي تصريح سياسي إلى عام ٢٠٠٣، حين أدلى بتصريحات صحافية نارية ضد الرئيس الجزائري الحالي عبد العزيز بوتفليقة إثر خطاب لهذا الأخير شكك فيه بأداء الرؤساء الجزائريين الذين سبقوه، واصفاً إياهم بـ«المتمرنين». وبالرغم من تلك المعركة الإعلامية الحامية، تدخل بوتفليقة لرفع منع السفر عن بن جديد من قبل السلطات العسكرية، وأتاح له الفرصة للعلاج في بلجيكا من مرض السرطان. ومهدت تلك المبادرة لمصالحة الرجلين، وقبول بن جديد تكريماً رمزياً من قبل بوتفليقة من خلال منحه وساماً في عيد الاستقلال. ثم توارى بن جديد مجدداً عن الأضواء، وكان آخر ظهور علني له في جنازة الرئيس بن بله في نيسان الماضي.
يلخص المسار العسكري والسياسي للشاذلي بن جديد كل مفارقات التاريخ الجزائري المعاصر. فهو انخرط في النزال الوطني ضد الاستعمار في سن الخامسة عشرة، وكان الأصغر سناً ضمن ضباط جيش التحرير الوطني. لكنه تعرض للتهميش بعد الاستقلال لسببين. فهو كان من «ضباط الداخل»، الذين كانوا يقاتلون في معاقل الجبال الجزائرية ضد الجيوش الفرنسية، في حين كانت الغلبة بعد الاستقلال لـ«جيش الحدود» الذي كان قادته خارج الجزائر في المناطق الحدودية مع المغرب وتونس. وزحف هذا الجيش الحدودي بعد الاستقلال للسيطرة على العاصمة الجزائر في الأيام الأولى للاستقلال، وأطاح الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية، منصّباً أحمد بن بله رئيساً للدولة. بعد الانقلاب على بن بله، في يونيو ١٩٦٥، قفز بن جديد إلى الواجهة، حيث اختير عضواً في «مجلس الثورة»، الهيئة الجماعية التي أسسها بومدين لإدارة الحكم. اندرج تعيين بن جديد في مجلس الثورة ضمن مصالحة غير معلنة بين ضباط الداخل والخارج. لكنه سرعان ما عانى التهميش السياسي لسبب آخر تعلق باستحواذ قدامى ضباط الجيش الفرنسي، الذين انضموا إلى صفوف الثورة الجزائرية خلال «ربع الساعة الأخير» على مراكز القرار، وإقصائهم تدريجياً لقدامى جيش التحرير. عيّن بن جديد حاكماً للمنطقة العسكرية في وهران، وانقطع طوال سنين عن الحياة السياسية. ولم يعد يحضر حتى اجتماعات مجلس الثورة، بداية من عام ١٩٧٢. لذا، كانت مفاجأة الجزائريين كبيرة حين اختير بن جديد رئيساً للدولة، خلافاً لكل التوقعات، غداة وفاة بومدين، في كانون الأول ١٩٧٨. كانت «معركة الخلافة» آنذاك قد احتدمت بين الجناح الاشتراكي لحزب جبهة التحرير الحاكم، ممثلاً بمسؤول المكتب السياسي محمد الصالح يحياوي، والجناح الليبرالي ممثلاً بوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بوتفليقة، ما استدعى تدخل الرجل القوي في النظام، مدير استخبارات بومدين، قاصدي مرباح، لتحكيم النزاع السياسي خشية أن يتطور الأمر إلى مواجهات مسلحة أو حركة انقلابية. وحيال تعذر التوصل إلى حل توافقي، فرض مدير الاستخبارات حلاً غريباً تمثل في دعوة الجميع إلى القبول بتزكية عضو مجلس الثورة الأكبر سناً والأقدم في المرتبة العسكرية الأعلى لتولي رئاسة الدولة. بذلك وقع الاختيار بالصدفة على الشاذلي بن جديد لتولي الرئاسة، الأمر الذي جعله عرضة للكثير من التندر والانتقادات في الشارع السياسي الجزائري. واعتقد أغلب العارفين بخفايا الشأن السياسي الجزائري أن بن جديد سيكون بمثابة «رجل ضعيف»، لن يتعدى دوره أداء دور الحاكم الصوري، حيال هيمنة الجيش والاستخبارات العسكرية على الحكم. لكن توالي الأزمات سمح لبن جديد بأن يضطلع بدور عراب التحول الديموقراطي في البلاد. بعد الأزمة المالية التي نجمت عن انهيار أسعار النفط عام ١٩٨٦، أطلق إصلاحات اقتصادية ليبرالية للخروج من اقتصاد الدولة الموجه، لكن ذلك اصطدم بمعارضة الحرس القديم من «بارونات الجيش والحزب»، ما دفع به إلى الشروع مبكراً في إصلاحات سياسية، بدأها عام ١٩٨٧ بإخراج ضباط الجيش من عضوية البرلمان واللجنة المركزية للحزب الحاكم. ثم اغتنم فرصة الانتفاضة الشبابية في تشرين الاول ١٩٨٨ لإبعاد ما تبقى من رموز النظام البومديني، وإطلاق التعددية الحزبية وحرية الصحافة في البلاد. ثم توج ذلك، في شباط ١٩٨٩، بسن دستور تعددي، وضع حداً لربع قرن من هيمنة حكم الحزب الواحد. ومن بين أكثر من ستين حزباً سياسياً أسّست في الأشهر الأولى لـ«الربيع الديموقراطي» الجزائري، كانت الغلبة لإسلاميي «جبهة الإنقاذ» في الانتخابات المحلية في حزيران ١٩٩٠، ثم في الانتخابات البرلمانية في كانون الأول ١٩٩١. وعبّر بن جديد آنذاك عن التزامه باحترام ما تسفر عنه صناديق الاقتراع، واستعداده لخوض تجربة «مساكنة سياسية» مع الإسلاميين. لكن ذلك المسعى اصطدم بفيتو العسكر، واضطر بن جديد إلى التنحي على أثر عريضة وقّعها ١٨٤ ضابطاً، سلمها إياه وزير الدفاع خالد نزار في اجتماع عاصف، عقد مساء ١١ كانون الثاني ١٩٩٢، وتفاصيل ما دار في ذلك الاجتماع لم تكشف رسمياً، وظل التساؤل قائماً طوال سنين: هل استقال بن جديد فعلاً أم أقالته القيادة العسكرية؟ وابتدع الشارع السياسي الجزائري تعبيراً ساخراً لوصف ما حدث بين بن جديد والعسكر مشيراً إلى أنه لم يستقل بل «استقالوه»!



تكريم رسمي

قدمت الجزائر التحية الرسمية، أمس، للرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد (الصورة)، فيما سيشيّع جثمانه اليوم في مربع الشهداء بمقبرة العالية إلى جانب سابقيه أحمد بن بلة وهواري بومدين، وكذلك الرئيس محمد بوضياف. وعُرض جثمان الرئيس السابق في قصر الشعب، أحد قصور الرئاسة الجزائرية، ليلقي عليه الوزراء وقيادات الجيش، قبل أن يفسح في المجال لكل الجزائريين، النظرة الأخيرة.
وكان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رافق جثمان بن جديد الموشح بالعلم الوطني من المسكن العائلي في حي الأبيار إلى قصر الشعب. ورأى في برقية تعزية أن الجزائر «فقدت مجاهداً من الرعيل الأول، تعلقت همته بتحرير الوطن من براثن الاحتلال وتخليص شعبه من مظالمه، فكابد محن النزال إلى أن قيّض الله للجزائر استقلالها وعودة سيادتها على ترابها». وتبع بوتفليقة في إلقاء نظرة على الجثمان رئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح، ورئيس المجلس الشعبي الوطني محمد العربي ولد خليفة، ورئيس الوزراء عبد المالك سلال، وأعضاء الحكومة وقيادات الجيش ورؤساء الأحزاب. من جهتها، حيّت الصحافة الجزائرية الدور الأساسي الذي لعبه الرئيس السابق في إرساء التعددية السياسية في البلاد.
(أ ف ب)