كانت الساعة قد قاربت السابعة مساءً عندما حطت طائرة الملكية الأردنية في مطار الملكة علياء في عمان، آتية من بيروت. إنها الزيارة السابعة لي للأردن. لم أُسأل يوماً عن مهنتي أو عن عائلتي أو عن أسباب زيارتي. لكن أمراً استجد في أيلول العام الماضي، وكان بمثابة إنذار، فبعدما أدخل رجل الأمن اسمي على الجهاز، لمعت عيناه. نظر إليّ وقال «تعمل صحافياً»، قلت: نعم. سأل: وما أسماء أشقائك؟ فأجبت: «سمير وعبد الله». أجاب: «عليك الانتظار قليلاً».
بعد خمس دقائق، عاد رجل أمن آخر يحمل جوازي وسألني: «ما سبب زيارتك لعمان؟». أوضحت سبب الزيارة والجهة الداعية. فسأل: «هل تحمل بطاقة صحافة؟» قلت: «نعم». لم يطلبها، اكتفى بتسليمي الجواز، وقال: «تفضل».
الثلاثاء الماضي، قادتني ورشة عمل إقليمية عن «المياه وتغير المناخ» الى الأردن مجدداً. وعند خط تختيم الجوازات، وقفت مجدداً بمواجهة رجل الأمن وكاميرته الحديثة المتخصصة بالتقاط بصمات العيون. بريق عينه هذه المرة كان أوضح، وعبوس وجهه يشي بأنه أضيف عدد من الأسطر الى جانب اسمي ورسمي على الشاشة. تكرر السؤال نفسه: «تعمل صحافياً؟»، قلت: «نعم». مجدداً. ما أسماء أشقائك؟ فأجبت: «سمير وعبد الله، ولكن أعتقد أن سؤالك يرتبط باسم شقيقي الأكبر سمير». لم يجب، صمت لثوانٍ، وقال: «في المرة الماضية، انتظرت قليلاً». أجبت: «صحيح». قال: «تفضل، انتظر على المقعد قليلاً».
وبين موعد وصول طائرة وهجوم ركابها على شبابيك التأشيرات، كانت أعداد الذين صودرت جوازات سفرهم وباتوا في خانة «انتظر قليلاً» قد تجاوز الـ ١٥٠ شخصاً. مرت ساعة كاملة من دون أن يلتفت إليّ أحد. عبثاً حاولت مراجعة رجال الأمن عن جواز سفري. رحلة الانتظار دخلت ساعتها الثانية، الفضول استدعاني الى الاحتكاك «برفاق الدرب» في رحلة الانتظار القسرية في مطار عمان.
المنتظرون سوريون قادمون الى عمان عبر مطار بيروت. جميع هؤلاء، ومن ضمنهم من هو مقيم في الأردن منذ سنوات، يحال الى مقعد الانتظار المشؤوم بانتظار أوامر جهاز المخابرات العامة. أذكر جيداً من بين المنتظرين ملامح امرأة في العقد الرابع تحمل طفلها الرضيع وتتكئ على المقعد، حزن عينيها يخبئ الكثير، لكني لم أجرؤ على السؤال. مرت الساعة الثانية ببطء، وكان رجل الأمن يعود كل عشر دقائق حاملاً دستة جوازات سفر وينادي على الأسماء الأولى. ويسلم الجواز مع عبارة «مع السلامة». لكن عمر، الحليق الرأس، ملّ الانتظار مثلي. كانت يده ترتجف، يريد أن يخبر قصته لرجل الأمن، لكن الأخير كأنه رجل آلي يكتفي بحمل الجوازات وتسليمها الى أصحابها وينصرف. سألت عمر عن بلده فأجاب: «أنا من دير الزور، لست منشقّاً، ولديّ أقرباء في عمان، الأمن السوري يرفض السماح للشباب بالمغادرة عن طريق البر، ما لم يكونوا قد دخلوا الأردن في عام ٢٠١١. هل سيعيدونني الى بيروت؟»، يسأل الشاب، ويجيب نفسه: «والله بيعملوها. ما معي مصاري تكفيني أكل ببيروت».
مرت الساعة الثالثة ببطء شديد، المقاعد باتت خالية إلا من عشر فتيات سوريات. ملامح وجوههن ليست متشابهة إلا بالتعاسة. تقول واحدة «قدري ونصيبي بشار الأسد، والله راجعة شو أسوي؟». ملّت الفتيات من الاتصال بأرقام خلوية في عمان طلباً للمساعدة. لكن القرار كان قد اتخذ. اقترب رجل الأمن منهنّ وقال: «ما في دخول على الأردن، انتظرن بقاعة الترانزيت وبكرا الصبح تعدن إلى بيروت». كان وقع الخبر كالمصيبة على الفتيات، بكين وانتحبن وندبن حظهن العاثر، وفرصة العمل الضائعة في الأردن. تضرب واحدة منهن الكف بأخرى. وتقول «طيب أنا إيش اسوّي بحالي، دَين التذكرة منين بدفعو؟».
عبثاً حاولت استطلاع الرأي عن مصيري. والجواب دائماً: «انتظر حتى ينادوا على اسمك». حينها حسمت خياري، سأعود الى بيروت. لكن كيف؟ فالرحلة الأولى للملكية الأردنية الى مطار بيروت عند الثامنة صباحاً. كان مجرد التفكير بأني سأقضي ثماني ساعات إضافية مسمّراً في قاعة تحمل الصورة الثلاثية للسلالة الملكية (الملك ووالده وابنه)، كابوساً لا أريد تصديقه.
كانت الساعة تشير الى الحادية عشرة إلا ربعاً ليلاً عندما جاء رجل الأمن حاملاً الجواز. «بسام ...»، يصرخ الرجل من آخر القاعة، فيسبقني شاب أردني يعمل مهندساً في دبي. كان ينتظر منذ ساعة ونصف. يأمره رجل الأمن بحزم قبل أن يسلّمه جواز السفر: «تراجع المخابرات العامة عند الثامنة من صباح الخميس ... انصرف». ولكن ماذا عنّي؟ «اش اسمك؟»، يسأل بلهجة أهل البادية، يغادر واعداً بأن يراجع الضابط المناوب عن سبب تأخيري أربع ساعات. لكن الرجل غادر عمله مع زملائه ليحل محلهم فريق آخر، وتعود رحلة البحث عن جواز السفر المنسي الى بداياتها.
تسلمت جوازي عند الحادية عشرة والنصف. لم ينطق الرجل بكلمة واحدة. دخلت عمان وتجولت في شوارعها، ورأيت «السحّيجة» المنتشرين بسياراتهم المفيّمة والتي تعلوها صورة الملك وشعار «الأردن أولاً»، وتعلو من مكبراتها أغاني التأييد. هؤلاء هم أنفسهم «البلطجية» في مصر و«الشبيحة» في سوريا، لكن عدسة «الجزيرة» لم تحظ بهم بعد، رغم انتشارهم الواسع على «دوارات» عمان السبع.
في شارع الراينبو، سهرت مع رفاق شيوعيين أخبروني الكثير عن البلد الذي يغلي، وعن الشباب التوّاق الى التغيير. عن عمان التي لا تنام. أخبروني عن شعاراتهم المطلبية واستعادوا هتافاتهم في التظاهرات «الأسعار نار نار ... والنشمي يلعب قمار» و«يا عبد الله يا ابن حسين ... اسمع منا كلمتين ... شوف مبارك صار وين». وقبل أن أغادرها، سمعت شباب الإخوان المسلمين يهتفون في عمان «حرية من الله غصب عنك عبد الله». حرية لن تحجزها ساعات أربع في مطار عمان.