تخيل ان فلسطين لم تحتل، وان اليهود لم يأتوا من اصقاع الارض اليها. لنتخيل انهم اختاروا بدلاً منها احتلال الارجنتين او الكونغو اللتين عرضتا عليهم في البدء ولم يقع اختيارهم على فلسطين. لنتخيل انه لم تكن هناك نكبة 1948، ولم يحصل قبلها ثورة 1936. لنتخيل ايضاً ان شعباً بأمه وابيه لم يهجّر من ارضه ويُدفع به الى بقاع الدنيا. لنتخيل ان كل ما نعرفه وجرى في فلسطين من مجازر وحروب وانتفاضات لم تحصل بتاتاً. إطلاقاً. لنتخيل اننا نعود الى بداية «الفيلم»، تماماً كما في الفيديو. فكيف ستكون حالنا، حال الفلسطينيين في فلسطين؟ كيف سيكون شكل نظامنا السياسي هناك؟ هل سيكون نظاماً طائفياً ام علمانياً؟ اين كان سيكون الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس يا ترى؟ مقاولا؟ هو اليوم ايضا مقاول، ولكن لنقل ان الاضرار ستكون اقل. كم احب هذا التمرين الذهني. لكنني اصدقكم القول بان مخيلتي قاصرة عن تخيل كل ذلك. طيب. هل ستكون دولتنا بمصاف الدول الاقليمية التي لها تأثيرها على المنطقة؟
فلنقل اولاً انه لو لم يكن هناك مخطط لاحتلال فلسطين، لكنا لا زلنا، كما اعتقد، ضمن ما يعرف بسوريا الكبرى، كنا سنكون جنوبها. كما اعتقد انه لو لم تحتل أرضنا لكان أغلب ابناء الجنوب يعملون اليوم في فلسطين، كما اعتادوا ان يفعلوا ذلك قبل الاحتلال. ولقدم ذلك حلاً لمشكلة البطالة، وعندها لربما اقتصرت زياراتهم ايضاً الى بيروت على الرحلات الترفيهية، فعكا كانت بالنسبة اليهم اقرب من بيروت، وحيفا اقرب من طرابلس. اعتقد انه لو لم تحتل فلسطين لما تعرفنا إلى اشخاص بحجم ياسر عرفات، جورج حبش، وديع حداد، نايف حواتمة، الشيخ احمد ياسين والسيد حسن نصرالله. فلنتخيل ان فلسطين لم تحتل، ربما لكان ابن قرية شقرا القريبة من فلسطين ابراهيم الامين قد أسس جريدة في فلسطين، ولربما كنت انا مراسلاً لها في عكا، موطني الاصلي. لو لم تحتل فلسطين لكانت الحرب الاهلية اللبنانية أقصر، ولما استمرت ثلاثين عاماً، ولكان عبء الدم علينا اخف. ورجاء خاص لا يقل لي احد انه لولا الوجود الفلسطيني في لبنان، لما حصلت الحرب الاهلية من الاساس. اذ ان تاريخ اللبنانيين يشهد انهم ومنذ تأسيس كيانهم لم يستطيعوا التعايش فيما بينهم، فهو مصمم «للتعايش» بين الطوائف على الطريقة التي عاشها اللبنانيون حتى اليوم. بمعنى «إنو معقول تصير حرب كرمال كلّة»!
تخيلوا فلسطين غير محتلة، تخيلوا مثلاً انه لا يوجد محمود عباس، ومحمد دحلان، وعزام الاحمد وسلام فياض. تصوروا اننا نعيش في بلد هادئ تنحصر همومنا بتأمين قوت يومنا فقط. تخيلوا انه لا وجود لقضية نحملها ولا لحلم اسمه حلم العودة المزروع في رؤوسنا. تخيلوا عدم وجود مخيمات في لبنان. لو لم يوجد في صيدا مخيم عين الحلوة فماذا كانت لتصبح قطعة الارض تلك؟ ارضا زراعية؟ او مجمعا تجاريا؟
تخيلوا ان فلسطين لم تحتل من الاساس، فمن كان ليسمع بإسماعيل هنية مثلاً او بصائب عريقات. اصلا لو لم تحتل فلسطين لما اخترع مصطلح ومنصب كبير المفاوضين، وربما لكان هنية سائق تاكسي، وصائب عريقات صرافا او صاحب محل مجوهرات.. يا الهي لو لم تحتل فلسطين لربما كانت «الحياة حلوة»!
ولكننا يجب ان نشكر الله على احتلال فلسطين. نعم يجب شكره على ذلك. تخيلوا اننا مجرد بشر طبيعيين، لا قضية نعيش لاجلها. تخيلوا ان يكون همنا المال فقط وان نتحول الى ماكينات لانتاجه. تخيلوا اننا لا نناضل من اجل قضية نؤمن بها. تخيلوا ان يكون كل همنا فقط السعي لتأمين منزل وعائلة ومدخول جيد وان نخلد ليلاً الى سريرنا مثلنا مثل ملايين البشر. فماذا سنترك خلفنا عندما نموت؟ القليل من المال للاولاد وللاحفاد؟ في المنطق هذا جيد، ولكن هل سيرضيك هذا؟ هل ستكون تركت بصمتك في محيطك او غيّرت قليلا في مسار التاريخ. حتى الذين تركت لهم اموالك سينسونك بعد فترة. هكذا، اظهر احتلال فلسطين اجمل واسوأ ما فينا. احتلال فلسطين جعلنا نعرف الفرق بين الحق والباطل. احتلال فلسطين فرض علينا ان لا نقف في المنتصف تائهين لا نعرف اي موقف نتخذ. احتلال فلسطين جعلنا نعرف الفرق بين ياسر عرفات ومحمود عباس والفرق بين المتمسك بالثوابت الوطنية والمتمسك بالثوابت الاميركية والقطرية حالياً.
وبالمناسبة، لو لم تحتل فلسطين لما كان هذا المقال ليكتب، ولربما كان ذلك افضل.