حلب | القنص، وافد جديد إلى الحياة اليومية في بعض مدن سوريا، حوّل مناطق التوتر فيها إلى حكاية رعب. الإعلام الرسمي تحدث في بداية الأزمة عن القناصة القادمين من خارج الحدود، فكان ذلك مثار سخرية المعارضة. لكن سخرية القدر جعلت القناصة لاحقاً أحد أهم أسباب الموت في سوريا، وكابوساً مقيماً لدى سكان كثير من المناطق. ولطالما ردد الإعلام الرسمي روايات عن وجود قناصين يستهدفون المتظاهرين والشرطة والأمن على حد سواء لإثارة الفتنة. وتقول تقارير طبية وقضائية إن كثيراً من عناصر حفظ النظام والمتظاهرين في بداية الأزمة قضوا برصاصة قناصة، لذلك يشدد على بيع الأسلحة المصادرة ومن بينها القناصات الحديثة.
قنص يومي

يوم الأحد الماضي، استهدف قناص رجلاً وامرأة كانا معاً بالقرب من دوار السبع بحرات على تخوم مدينة حلب القديمة. المنطقة تعدّ خط تماس بين الجيش والمسلحين. وقد وصل عدد القتلى في منطقة السبع بحرات، وصولاً إلى أمام المصرف المركزي، إلى سبعة أشخاص.
يروي أحمد، وهو عنصر إطفاء، أن القناص في سوق المدينة المتاخمة للسبع بحرات، قتل زميلاً له يدعى معاوية حوشان، وهو سائق سيارة إطفاء، وأصاب إطفائياً آخر يدعى حكم عساف. ويقول أحمد إنه على الأثر «تراجعنا، والألم يعتصر قلوبنا لرؤية سوق المدينة يحترق ونحن لا نستطيع فعل شيء».
حي الميدان، بدوره، أصبح أكثر المناطق استهدافاً برصاص القناصة، حيث انعدمت الحياة في شارع البرج، وصولاً إلى القرب من جامع شبارق. الشوارع الفرعية المؤدية إليه استعارت التجربة الحمصية مع القناصة. أوراق كتب عليها بخط عادي «احذر القناص» أو «لا تعبر يوجد قناص»، وقد تدلت من أسلاك تم ربطها بين جدارين أو علقت على عمود كهرباء، أو وضعت على برميل فارغ استخدم لإغلاق الطريق.
فاطمة حنطاية تقيم في السبع بحرات، تختصر ما يواجهه العديد من السوريين، قائلةً «عدت إلى منزلي قبل أيام لآخذ حاجيات ولباساً للأطفال، فوجدت مسلحين قالوا لي أن أكون حذرة لأن قناصة الجيش يستهدفون المدنيين عادة».
من جهته، يشير محمد نور، المقيم في حي الميريدان، إلى استهداف بنايته برصاص قناص عدة مرات. ويضيف «أبلغت الشرطة، فقالوا لي خذ حذرك. مصدر الإطلاق هو من أبنية حي الإذاعة التي يسيطر عليها المسلحون».
أما فراس العائد إلى حي قريب بعد نزوح استمر شهراً، فيروي أنه «في آب، وصل المسلحون إلى حي المارتيني واحتلوا المشفى وشققاً سكنية تطل على فرع الهجرة والجوازات وقيادة الشرطة». وأضاف «أخرجونا من بيوتنا، وعندما عدنا وجدنا كوات صغيرة أحدثت قبالة المبنى، وكوات أكبر بين الشقق»، مشيراً إلى أن «شقة جاره في البناية الخلفية أصيبت بقذيفة دبابة للقضاء على قناص كان قد تمركز فيها».
حسام الدين أرمنازي، العائد من ألمانيا، قاطعاً دراسة الطب، إلى حلب للمساهمة في الثورة، حيث شارك في تظاهرات المدينة والجامعة واعتقل عدة مرات، قبل أن يلتحق بصفوف «الجيش الحر»، قُتل برصاص قناص. وحسب رواية أصدقائه المعارضين، فإنه كان يحاول إخلاء الجرحى في إحدى المعارك في حي الميسر، عندما حوصر بالرصاص، وهو في سيارة مخصصة للإسعاف. وتمكن القناص من رؤيته مختبئاً عبر مرآة السيارة فأطلق النار لتخترق هيكل السيارة وتصيبه في مقتل.
يقول عماد، وهو مقاتل في «الجيش الحر»، إنه «في معركة تحرير الميدان فقدنا اثنين من مقاتلينا أثناء محاولة سحب مصابين برصاص القناص». وأضاف «الجيش يترك الجثث لكي تصبح فخاً لقناصته، ورغم أن إكرام الميت دفنه، إلا أن بعض الجثث تبقى أربعة أيام وتتفسخ، ولا نستطيع سحبها، نحن نعمل المستحيل لسحب الجثث».
أسامة ريشة، شاب عمره 17 سنة، قتل بعدما أصيب بطلقة قناص في عينه. يقول مسعفه ويدعى رضوان «هجم الجيش الحر على ميسلون والجابرية. على ناصية شارع فرعي، وقف جندي مستتراً وطلقات القناصة تصطدم بالجدار». ويضيف «المرحوم وقف إلى جانب الجندي لاستطلاع الشارع، ولم يستجب لطلبنا منه التراجع حينما هوى مضرجاً بدمه، فعمدت الى إسعافه، لكنه فارق الحياة».

قناصة شقراء وخيال شعبي

في حي سيف الدولة، يروي وسام، وهو حلاق يقع بيته قرب مدرسة بسام العمر، أنه «أصيب اثنان من جيرانه برصاص قناص، فمنع الجيش المواطنين من العودة بعد ذلك إلى المنطقة». وكرر وسام ما يردده أهالي الحي عن إلقاء القبض على قناصة شقراء الملامح، تبيّن أنها سويدية الجنسية. هذا الأمر لا ينفيه ولا يؤكده مصدر مطلع، مشيراً الى أن أطقم كبريات المحطات التلفزيونية العالمية التي تتسلل إلى سوريا «تستعين بمرتزقة لتأمين مواقع التصوير، وهؤلاء مدربون على القنص واستخدام الأسلحة الحديثة، ومعظمهم تدربوا لدى شركة بلاك ووتر الشهيرة بممارساتها الإجرامية في العراق، والتي أصبح اسمها «إكس» للخدمات الأمنية».
حضور القناصة في الأحاديث اليومية ازداد، وبدأ نسج الروايات عن نفسية القناص الذي إن لم يجد عدواً لقنصه، قنص أي عابر لرؤية شخص يهوي برصاصته. جوزيف، المقيم في الميدان، يقول إن «أول شخص قتل في حينا بعد اقتراب المسلحين من الحي كان امراة مسنّة في العقد الثامن كانت في الحديقة». ويفسر ذلك بأن «القناص يحب تجريب سلاحه، ولا يوجد أمامه غير الإنسان البريء للتجريب، وإلا لماذا سدد رصاصة إلى قلب سيدة مسنة».
الروايات عن القناصة قاربت الأسطورة في بعض الأحيان. يردد كثير من المواطنين أنه في بعض المناطق هناك قناصات مركّزة ومموّهة جيداً، وموصولة بجهاز كومبيوتر محمول يتم التحكم بها من قبو أو من مكان قريب. وتشير تقارير صحافية إلى أن تدريبات تلقاها مقاتلون ليبيون وعرب على استخدام السلاح الحديث وضمنه القناصات، على أيدي شركات أمنية فرنسية وأميركية. كما تشير هذه التقارير إلى تسلل فرق خاصة منها إلى عمق الأراضي السورية في غير مكان.
في المقابل، بث ناشطو «الجيش الحر»، «اعترافات» فتى مخطوف، لا يتجاوز عمره 18 سنة، قال فيها إنه اشترك مع مسوؤل في حزب البعث الحاكم بتوزيع 12 من القنّاصات (الفتيات) اللبنانيات في حيي السكري وصلاح الدين من أجل استهداف السكان المدنيين.
وعلى خطوط التماس في حلب، ينتشر قناصة الكتائب الإسلامية الجهادية، وبينهم قناصون عرب مهرة، ويقابلهم قناصة للجيش السوري. لكن اعتماد الجيش السوري على القناصة لا يقع بنفس درجة أهمية ذلك لدى المسلحين، لاختلاف العقيدة القتالية لكليهما. فالأول تتوفر عنده غزارة نيران عالية جداً، في حين أن الثاني يلجأ إلى التخفي في الأبنية السكنية، حيث يلائمه جداً سلاح القنص في فرض سيطرته على الأرض وإعاقة تقدم عناصر المشاة، ومنعهم من فرض سيطرتهم بحرية.
ويعتبر العسكريون أن الخطر الأول في المدينة اليوم يأتيهم من القناصة، وبالأخص الذين يملكون قناصات حرارية حديثة تمكنهم من التسديد ليلاً، اعتماداً على الفروق الحرارية بين الأجسام والهواء. أما معالجة هذا الأمر فلا تكون إلا عبر طريقة واحدة «قذيفة دبابة أو مدرعة».

محاكاة التجربة العراقية

المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي للعراق بثت سلسلة إصدارات بعنوان «قناص بغداد» عن استهداف الجنود الأميركيين. قناص بغداد أصبح له نظير في سوريا. فنشطاء الكتائب الإسلامية الجهادية في سوريا، والتي قاتل بعض مسلحيها في العراق سابقاً، عمدوا الى محاكاة التجربة، حيث بث إصدار من «قناص الشام» يوثق استهداف الجنود على الحواجز وإصابتهم وسقوطهم في مناطق مختلفة من أرياف دمشق وحمص وإدلب وحماة.
الإصدار الذي يعتقد أن منتجه غير سوري، حاكى الإصدار العراقي، لكنه تخلف عنه فنياً كثيراً، ربما هو الفرق بين القضيتين، ومدى الاحتراف في العمل الإعلامي.
إصدار «قناص الشام» لم يتكرر. وتواريخ مشاهده تعود إلى ما قبل إنهاء عمل بعثة المراقبين الدوليين. فعدد الحواجز انخفض كثيراً بعد استهدافها، وقواعد الاشتباك تغيرت. ولم تعد هنالك حالة استرخاء وشعور بالأمان النسبي لدى الجنود، كانت تمكن من قنصهم. كما لم يعد من السهل، وهو الأهم، تصوير مشهد قنص قد تعقبه طلقة مدفعية دبابة.



قناصة عرب

يوم الأحد الماضي، أعلنت «سانا» أن وحدة من القوات المسلحة السورية قضت على «أبي حذيفة التميمي»، وهو ليبي الجنسية وعرّفته بأنه «أخطر القناصين في منطقة بستان القصر». وأكدت أن وحدة أخرى قضت على «أبي بكر» الملقب بقناص العرقوب.
أما في آب الماضي، فقد نعت صفحات جهادية محمد فوزي فرحات الدرهوبي، «الذي أصيب برصاصة قناص في حي صلاح الدين بحلب السورية».
وصحيح أن من العسير جداً تصوير قناص أو تصوير استهدافه، إلا أن ذلك لم يمنع تنسيقيات الثورة من بث عشرات المقاطع المصورة التي تتحدث عن تصفية قناصين، حيث يظهر في معظمها شبان بعضهم ملثمون في غرف معتمة يطلقون النار من طلّاقات نقبت في جدران الشقق السكنية، فيما يعلن أحدهم أنه جرى قنص قناص أو شبيح، من دون إمكانية مشاهدة النتيجة.