دمشق | قبل بداية أحداث الأزمة السورية، كان الأمن والآمان من أكثر ما يميز المجتمع السوري عن البلدان المجاورة، وكانا أهم مقومات الدعم للسياحة الداخلية والخارجية على حد سواء. في فصل الصيف، كان سكان المناطق والضواحي الفقيرة، يفترشون عشب الحدائق العامة على طريق مطار دمشق الدولي، هرباً من الحرارة المرتفعة. وكانت سهرات السمر والتسلية تستمر حتى ساعات الصباح الباكر. وغالباً ما كانت العائلات تُنهي نزهاتها البسيطة، بزيارة سريعة إلى منطقة الميدان الشعبية، لتناول وجبات من المأكولات الشعبية المشهورة. الشباب السوري، بدوره، اعتاد زيارة تلك الأماكن في ساعات متأخرة من الليل، من دون الخوف من العودة إلى المنزل مع بزوغ الفجر.
«كانت عادة محببة تجمعني مع أصدقائي، لكن مع بداية الأحداث، وارتفاع حدة المواجهات المسلحة في العاصمة دمشق، أصبحت زيارة هذه المطاعم في الظهيرة تشبه عملية انتحارية، فما بالك إن كانت في ساعات متأخرة من الليل»، يقول تامر (22 عاماً)، الطالب الجامعي. ويضيف «اليوم لا أحد من أصدقائي أو أفراد أسرتي، يغامر بالبقاء خارج منزله بعد الساعة الثامنة مساءً، خشية التعرض للخطر المتعدّد المصادر والأشكال، من الرصاص الطائش، أو الانفجارات المختلفة، أو الحواجز الأمنية».
تسأله عمّا يعنيه بخطر الحواجز الأمنية، فيبدأ حديثاً طويلاً حول انتشار حواجز التفتيش الأمنية بالعشرات، على جميع مداخل ومخارج العاصمة دمشق وضواحيها المختلفة. والغالبية العظمى من هذه الحواجز يتعرض للهجمات على نحو مستمر من قبل عناصر الجيش الحر، بما أنها أهداف عسكرية ثابتة من السهل ضربها. وتخلّف هذه الهجمات العديد من القتلى في صفوف الجيش والمدنيين.
تعرّف العلوم العسكرية الحواجز بأنها «نقاط تُعيق حركة مرور الآليات، بهدف التفتيش أو القبض على أهداف محددة، كما تعدّ في الوقت نفسه نقاط إنذار مبكرة في حالات الحرب وبعد حصول حوادث أمنية داخل أو بالقرب من مراكز المدن». وهذا ما يبرر ازدياد عدد الحواجز الأمنية في العاصمة دمشق في الثلاثة أشهر الماضية، كما هو الحال في مختلف المحافظات والمدن والمناطق السورية، نتيجة ارتفاع حدّة المواجهات المسلحة بين وحدات وكتائب الجيش الحر، والجيش السوري النظامي والأجهزة الأمنية المختلفة.
اضافة الى ذلك، فان ارتفاع عدد التفجيرات الإرهابية في مناطق حساسة جداً، مثل مبنى أركان الجيش السوري في ساحة الأمويين، ومنطقة المزة، التي تكثر فيها سفارات الدول الأجنبية، أعطى مبرراً مقنّعاً لزيادة عدد الحواجز، التي أصبح لبعضها أسماء وحكايات ساخرة، يتبادل السوريون سردها، بعدما تحول هذا الحلّ الأمني البدائي، إلى تفصيل يمتلك حضوراً وتأثيراً قوياً على أسلوب حياتهم.
كما هو الحال مع حاجز مطار المزة العسكري، الواقع على أحد أهم الطرق التي تصل المنطقة الجنوبية بالعاصمة، الذي أُطلقت عليه تسمية «سور الصين العظيم»، لأنه يسبب ازدحاماً تصطف فيها سيارات المواطنين وحافلات الطلاب والموظفين لمسافات طويلة جداً و«يتطلب العبور من هذا الحاجز ما بين نصف ساعة إلى ثلاث ساعات في أوقات الذروة. طبعاً يجب على الطلاب والموظفين النزول من حافلاتهم وتخطي أرتال السيارات إلى ما بعد الحاجز، لمسافة 500 متر أو أكثر والركوب مجدداً في حافلة أخرى للوصول في مواعيد الدوام الرسمي»، يقول الطالب الجامعي نزار (24 عاماً). ويضيف «قبل دخول الحواجز على حياتنا، كنت أستقل حافلتين للوصول إلى جامعتي. الرحلة نفسها اليوم تتطلب ركوب أربع حافلات لتخطي الحواجز والوصول في الوقت المحدد. هذا ما يتطلب مصروفاً مادياً إضافياً».
أما زياد (35 عاماً)، الموظف الحكومي، فيفكر جدياً مع زوجته الموظفة في شركة خاصة في ترك منزلهما الواقع في ضواحي العاصمة، واستئجار منزل آخر في منطقة قليلة الحواجز. يروي معاناته اليومية قائلاً «استطاع المغامر السويسري فيليكس الوصول في كبسولته إلى حدود الفضاء الخارجي والعودة إلى الأرض خلال ساعتين وربع ساعة من الزمن، نحن نحتاج إلى ثلاث ساعات لقطع 30 كيلومتراً للوصول إلى عملنا».
من المألوف جداً اليوم أن تشاهد شجاراً بين سائقي سيارات الأجرة وزبائنهم في دمشق. هم أيضاً لهم حكاياتهم مع عالم الحواجز الأمنية، يقول أبو عماد (45 عاماً) «لم تعد المسافة وحدها من يقرر الأجرة المحددة، هناك أيضاً الوقت الضائع الذي نقضيه على الحواجز، هذا ما يحاول الزبون تجاهله». ويضيف «منذ عدة أشهر أرفض توصيل زبائني إلى ضواحي دمشق لكثرة الحواجز هناك. وأبحث دائماً عن طرق قليلة الحواجز، وإن اضطررت إلى قطع مسافات أطول».
معاناة مشابهة يعيشها مفيد (31 عاماً)، الذي يعمل على أحد خطوط المناطق الجنوبية من ضواحي العاصمة، ويقول «نحن ثلاثة سائقين نعمل بالتناوب على نفس الحافلة التي تعيل عائلاتنا، لكن مع ازدياد الحواجز الأمنية انخفض مدخولنا إلى ما دون الثلث. رحلة الذهاب والإياب التي كانت تستغرق حوالى ساعة، تمتد اليوم بسبب الوقوف الطويل على الحواجز إلى ثلاث ساعات أو أكثر. طبعاً تبقى أجرة الراكب الواحد هي ذاتها لا تتغير».
يتساءل السوريون اليوم عن جدوى انتشار الحواجز الأمنية في عاصمتهم ومدنهم وقراهم النائية، مع استمرار حدوث تفجيرات إرهابية في مناطق مختلفة. ويقول أبو جمال (55 عاماً) «هل يعقل أن ينتظر أحد الإرهابيين أو عناصر الجيش الحر ساعات طويلة على أحد الحواجز الأمنية ليلقى القبض عليه؟ وإن كان هذا الحل الأمني البدائي جداً يحقق فائدة أو نفعاً، فكيف نفسر التفجيرات الإرهابية التي تزداد مع ازدياد عدد الحواجز؟». ويضيف «من الصعب جداً إيقاف إنسان يريد تفجير نفسه لكونه ممسوح الدماغ، ويتبنى عقيدة جهادية تكفيرية تعده بالجنة والحور العين مقابل قتل المدنيين الأبرياء. استمرار التفجيرات الإرهابية يثبت فشل الحواجز كحل أمني سلبي جداً، يدفع ضريبته المدنيون من وقتهم وطبيعة حياتهم».
يقضي الكاتب والسيناريست السوري عدنان العودة، ساعات طويلة على الحواجز، لكنه يتحايل على لعنة الانتظار بكتابة بعض الخواطر التي أطلق عليها تسمية «أدب الحواجز»، مثل عبارته التي كتبها على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» «حين سقط حاجز الخوف، امتلأت شوارع سوريا بالحواجز ــ من أدب الحواجز ».
وعن تفسيره وقراءته لظاهرة الحواجز الأمنية، يقول لـ«الأخبار» إن «الحواجز، بالمعنى العملي لا معنى لها ولا فائدة، سوى أن يوهم النظام نفسه ويوهم الناس العاديين بأنهم بأمان. إنها بتعبير آخر كالباب بدون قفل، لا يمنع خارجاً، ولا يعيق داخلاً، تماماً كما البنت التي اعتادت أن تسهر حتى وقت متأخر من الليل، وذات مساء أخبرها والدها أنه ينبغي لها أن تعود في السابعة، وقد نسي الأب أو تناسى أن البنت تستطيع أن تخرج من الشباك». وعن استمرار حوادث التفجيرات الإرهابية في ظل ازدياد عدد الحواجز، يضيف «بهذا الشأن اعتقد أن الحواجز جزء من عمليات التفجير، وخصوصاً أن هنالك شائعات تتناقلها الألسن أنّه كثيراً ما يجري شراء الحواجز».