يتداول كبار السنّ في ساحات القرى الجنوبية في لبنان، مثلاً معبراً، يصلح أن يدخل معترك السياسة والعسكر: «من ليس قادراً على نطح البقرة، ينطح العجل». ضربت إسرائيل السودان. الرسالة الدعائية واضحة: نحن قادرون على الوصول إلى مسافات بعيدة، وضرب أهداف. ومن كان بمقدوره الوصول إلى مسافة 1900 كيلومتر، فهو قادر على الوصول إلى مسافة 1600 كيلومتر، إلى مدينة قم الإيرانية، حيث منشأة التخصيب المحصنة، فوردو. وبحسب الرواية الإسرائيلية «غير الرسمية»، هي أيضاً رسالة باتجاه سوريا، وحزب الله، وحركتيْ حماس والجهاد الاسلامي. كان لافتاً عنوان صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بأن «الإيرانيين ينظرون إلى اللهب في السودان»، أو ما ورد على لسان المعلقين العسكريين، من أن «إسرائيل قادرة على فعل ما تريد». لكن الأدق هو أن الضربة في السودان، رسالة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وهي رسالة داخلية انتخابية بامتياز، ومحاولة فرض الطابع الأمني والسياسي على الانتخابات، التي يحاول خصومه أن يجعلوها استفتاء على السياسة الاقتصادية والاجتماعية. ولعلّ العامل الأهم الذي دفع نتنياهو إلى اتخاذ قرار بضربة عسكرية في السودان في مرحلة ما قبل الانتخابات، أنّه تسلق شجرة عالية جداً، وهدّد ووعد، بأن الخيار العسكري ضد إيران بات جاهزاً، ولدى الاستحقاق تراجع، وبانت محدودية القدرة لديه. بقي وحيداً على أعلى الشجرة، دون أن يجد سلّماً للنزول عنها. والعملية في السودان، كانت محاولة لبناء سلّم.
إذاً الضربة لغايات داخلية، ويمكن تمريرها بسهولة في وعي الجمهور الإسرائيلي. فهي تحاكي تطلّعاتهم بأنّ الجيش الإسرائيلي قادر ومقتدر، لكنّها لا تصلح ولا تجدي في تغيير أيّ من نتائج المعركة الواقعية، التي تخوضها تل أبيب ضد أعدائها.
أسقطت الرواية الإسرائيلية المتداولة في أعقاب الضربة، الإجابة عن جملة من الأسئلة، الموجودة قبل الهجوم على السودان، وبقيت على حالها ما بعد الهجوم:
إذا كانت إسرائيل قادرة، وقرّرت أن تفعّل قدراتها وتزيل التهديدات، فلماذا ترحّل طائراتها الحربية كل هذه المسافة، لضرب مجمع اليرموك للتصنيع الحربي جنوبي العاصمة الخرطوم، بينما التهديد الفعلي ماثل أمامها، وترتدع عن مواجهته؟ لماذا تقدم على ضرب هدف تكتيكي، بينما التهديد الاستراتيجي أقرب، وفي متناول طائراتها أيضاً؟ لماذا تسير مسافة 1900 كيلومتر، بينما المسافة إلى قم، وآراك، ونتانز وغيرها من المنشآت النووية الإيرانية أقرب؟ بل المسافة إلى لبنان لا تتعدى الكيلومترات المعدودة. ماذا عن السلاح الكيميائي في سوريا، وإمكان «انزلاقه» إلى لبنان؟ ماذا عن منع إسرائيل حزب الله من «كسر التوازن» الذي تهشّم قطعاً قطعاً؟ ماذا عن قطاع غزة، وتهديد فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع؟
لسان حال الإيرانيين، وسوريا وحزب الله، وحركتي حماس والجهاد الاسلامي، وقوس قوى «محور الشر» واحد. ينظرون إلى المشهد السوداني، يبتسمون بعدما فهموا جيداً محدودية الخيارات الإسرائيلية حيالهم.
إذا كانت اسرائيل قد بثّت رسالة إلى اعدائها، فإنها رسالة ضعف، وليست رسالة قوة. مَن مِن أعداء إسرائيل لا يعلم بأنّ هدفاً بلا دفاعات، وخارج إطار توقّع استهدافه لتواضع أهميته، لا يمكن لسلاح الجوّ الإسرائيلي أن يستهدفه؟ خاصّة أنّ ما يعقبه ليس هاماً: من دون ردة فعل عسكرية متوقعة، من دون دفاعات جوية، ومن دون تداعيات على اسرائيل ودول المنطقة، ومن دون تداعيات على السياسة والمصلحة الاميركيتين، ومن دون ضرب المنشآت العسكرية والبنى التحتية والحيوية جراء تساقط الصواريخ المدمرة، ومن دون إمكان الانزلاق الى حرب شاملة تهابها تل أبيب وواشنطن، ومن دون إمكان اشتعال الخليج وآباره والازمة النفطية التي تعقبه. تبقى الضربة، في نهاية المطاف داخلية بامتياز، وتتحكم فيها الانتخابات. لو أرادت إسرائيل فعلاً أن ترسل رسالة قاصمة، لكان عليها أن ترسل طائراتها إلى لبنان، وتتعامل مع «الآلاف من الاهداف»، التي تقول إنّها موجودة لديها. هذه الاهداف التي تعدّ، إسرائيلياً، بؤرة التهديد الرئيسية للدولة العبرية، والتي ما زال السؤال عنها قائماً: ما الذي يمنع، أو يردع إسرائيل من استهداف لبنان، ليس الآن فقط، بل طوال السنوات الماضية.
لو أرادت إسرائيل أن ترسل رسالة قاصمة، لكان عليها أن ترسل طائراتها إلى إيران، وتسحب الخيارات الموجودة على الطاولة، وتتعامل مع المنشآت النووية الإيرانية، التي تعدّ تهديداً وجودياً. كان عليها أن ترسل طائراتها إلى سوريا، وتتعامل مع مخازن ومستودعات السلاح غير التقليدي، كي «لا ينزلق إلى لبنان»، أو يستخدمه النظام السوري، كما يقول الإسرائيليون. إنها الانتخابات. لكنّها أيضاً، فعل كاشف عن ارتداع إسرائيل أمام أعدائها.