غزاوية في اوسلو
من رفاهية العالم، أن تجد الفواكه الموسميّة والاستوائيّة على رفّ واحد في المتجر، طوال الفصول الأربعة. أن تقف أمام قسم خاص لأنواع الشاي المنكّه الذي صنع في بريطانيا، وزرعته أيادي الفقراء في افريقيا. أن يُباع الخبز الطازج صباحاً و يُرمى الخبز المتبّقي في المساءِ، مجّاناً.
أن تشتري كيس سبانخ مثلّج مثلا، يكفي أن تضعه في ماء مغلي ليصير حساء دافئاً، ودجاجة متبّلة نصف مطهوة، عليك أن تضعها في الفرن فقط، ستشفقُ حينها على أمّك التي كانت تشتري الدجاج الحيّ والسبانخ المتسخ من السوق، تجادل البياعين وتصاب بضربة شمس خفيفة، قبل أن تعود إلى البيت لتنقّي ورق السبانخ الجيد، تغسله مرات عديدة وتقطعه برفق، ستربي الدجاج لتسمّنه لأيام، ومن ثم تذبحه وتنتّف ريشه بالماء المغلي الذي سيلسع يديها، وتطهوه بصبر في وعاء طبخ قديم، ستستهلك عمراً بأكمله قبل أن تنتهي من كل ذلك.
من رفاهيّتك ورأسماليّة العالم، أن تحتار بين عشرين نوعاً من الكاكاو: شوكلاته بالورد، باللوز المر، بالفلفل، بالنعناع، بالملح!
أن يبيعك القهوة المنزلية رجل يلبس بزّة سوداء وربطة عنق في محل حداثي، كُتِب على ياقته (متخصص قهوة)، سيسألك عما إذا كنت تريد قهوة برازيلية، إثيوبية، قهوة بدون كافيين، بالفانيليا؟ بالكريما؟ وقهوة بأسماء كثيرة تحتاج لأن تتهجّئها حرفاً حرفاً وتضحك.
من رفاهية العالم أن تُوضع الشاشات الكبيرة المضاءة في الشوارع طوال اليوم تقلّب الدعايات والألوان، أن تبقى أنوار مكاتب الشركات الكبيرة والمباني العالية مضاءة ليلاً، بعد انصراف موظّفيها، حفاظاً على جمال المدينة. وأن يفترش متشرّد صقيع الرصيف بجوار فندق راقٍ، يرتاده المشاهير والأغنياء والسياسيون.
من نتاجِ الرأسماليّة أن تعود إلى المنزل مساءً، لتجد جرائد الجيران لا تزال ملقاة على أبوابهم، لأنهم لم يعودوا بعد من ساعات العمل الإضافية ليسددوا فواتير رفاههم، و ليناموا في شقق ضيّقة مرهونة للقروض البنكيّة.
من رفاهيّتك أن تشتري ورداً للطاولة وتشعل شمعاً ملوناً عندما تدعو ضيوفا للعشاء، ستتذكر أن ذلك الشمع أنهك عينيك لسنوات، من كثرة القراءة على ضوئه في المخيّم، ولن تنسى أن تأخذ شمعاً كبيراً كهدايا للعائلة في حقيبة سفرك، ليتجمّع حوله الأطفال والجدات والجيران، متعجّبين من حجمه.
وتنسى حين تكوي قميصك أن هناك كهرباء كافية في الحائط لتكويه على مهل، لكنك رغماً عنك تتعجل متوهّماً بأن الكهرباء ستنقطع عما قليل. وقد تصاب مؤقتاً بـ«تروما» صوت الطائرات، كلّما حلّقت واحدة في السماء، ستدوّر رأسك بحثاً عنها، ومتسائلاً عن المكان الذي ستقصفه عمّا قريب، لكنك تفيق من لاوعيك على سؤال آخر، أين أنا ؟ هنا أم هناك؟
لن تتصالح تماماً مع السلالم والقطارات الكهربائية، ولا حتى مع خطوط المشاة في الشوارع التى نادراً ما تراها هناك في مدينتك الصغيرة، لم يكن أحد يعرف لِمَ تلك الخطوط البيضاء الباهتة على الاسفلت؟ ما وظيفتها؟ لذلك لم يستخدمها أحد.
وكلّما أقلّك الباص الواسع بتكييفه الشتوي والصيفيّ، تشعر بقهر في الذاكرة، لمّا تتذكر تلك الباصات هناك الضيقّة والقديمة، يتراص فيها الموظّفون والطلّاب فيها كسمك في علب السردين المعطوبة من قيظ الشمس.
وفوق كلّ ذلك لن يجد سائق الباص الأوروبيّ وقتاً ولا ضرورة ليردّ لك صباحك بـمرحباً مماثلة، فستجرّ احراجك أمام نفسك إلى الكرسيّ واضعاً سمّاعات موسيقية فى أذنيك.
و إذا ما ابتسمت لامرأة تنزّه كلبها، ظنّ الكلب أنك تلاعبه، فيبادلك هوهوات لطيفة وهو يتمسّح بطرف معطفك، بينما تجرّه المرأة وتنادي اسمه برقّة، تضحك في سرّك متخيّلاً ذلك الكلب المدلل في المخيّم، وهو يجري هرباً من كلاب المخيم المسعورة، أما الكلاب هناك فهي تهرب من الأطفال الحُفاة وهم يطاردونها بالحجارة، تلك من ألعابهم المفضلّة.
لاحقاً ستدرك الفرق أيضاً بين العصافير التي تأكل الحَبّ والخبز دون خوف من الأيادي البشريّة المفتوحة، وبين العصافير الهزيلة التي تسرق قوتها من الأرض، وترتجفُ للعيون الساديّه التي تترصّدها، لتنصِب فخاخاً لها فى أكثر الأماكن أمناً.
فى «عيد» الهالووين، سيدقّ عليك بعض الأطفال الباب، مرتدين أقنعة بلاستيكيّة مخيفة، سيرمونك بالبيض حالما تفتح لهم دون أن تعطيهم السكاكر، كيف لك أن تعرف ماذا يعني عيد الهالووين!
وعندما تجرّب جولتك الأولى في لعبة البولنغ مع أصدقاء، سيضحكُ الاطفال هناك على طريقة لعبك وإمساكك للكرة المعدنيّة الثقيلة، كيف لهم أن يعرفوا بأنه لم يكن لديكم صالة بولنغ فى المخيّم!
أوسلو ـــ أسماء شاكر