ولو يرموك... «الآن فقط تذكرون المخيم؟» أصرّ صديقي على أنني تناسيت أمر سوريا علناً لمدة طويلة، لذا ليس من حقي الآن أن أحزن أو أغضب أو أبدي أي انفعال لقصف مخيم اليرموك الذي كانت أحواله دائماً سيئة كما يقول. لا أدري... هل انفجرت بالبكاء بسبب كلامه الذي أحسسته جارحاً حينها، أم لأني كنت أريد سبباً للبكاء، أيّ سبب...؟.
أغنية «ولو يرموك» بصوت سميح شقير لطالما ذكّرتني بالمخيم السوري، ربما للتشابه الإملائي للكلمات، وكون سميح شقير سورياً، جمعا في رأسي صورة المخيم كل مرة. وأنا، لا أعرف المخيم، وطبعاً لم أكن فيه يوماً، ولا أعرف أحداً فيه بشكل شخصي أو بسبب قرابة عائلية أو قرابة الدم كما يُسمّونها، لكن، ومع كل ذلك، أحسّ بأن كل سكان المخيم أهلي، الفلسطينيون والسوريون على حد سواء.
والوحيد الذي سُئلت مراراً عنه إن كان قريباً لي في مخيم اليرموك، هو حسن حجازي، طبعاً تذكرونه، الشاب الذي عاد الى يافا بعدما تسلل عبر الجولان السوري المحتل، وهو ـــ حتى هو ـــ لا يقربني، يجمعنا تشابه اسم العائله فقط، فهو من يافا، وأنا من طمرة، وكلها فلسطين، صحيح.
حسن حينما عاد، لم يزر يافا فحسب، هو أثبت لمحمود عباس وزمرته «أنها» ليست ببعيدة ولا مستحيلة، هذا الشاب وحده حقق بمساعدة قدميه وإرادته فقط ما لم تستطع جولات المفاوضات على مر السنين تحقيقه!
«أطفال اليرموك ليسوا أغلى من أطفال حمص»، أضاف صديقي، واتهمني بالصمت. أنا لم أصمت عن أطفال حمص ولا عن أي طفل آخر بالكوكب. لكن، ألا تكفيهم حياة الغربة؟ هل يجب أن يُسلبوا الحُلم بالعودة كذلك؟ ثم يعود محمود عباس «ليزنّ» في رأسي وهو يقول إنه ليس من حقه أن يعود الى صفد، هو فقط سيذهب إليها زائراً! فؤاد حجازي كان من صفد، هو كذلك ليس قريباً لي، ولا يجمعني به من صلة الدم إلا تشابه اسم عائلتنا، وفؤاد حجازي لم يمتد به العمر ليكون في صفد ويدافع عنها وقت النكبة، لكنه استشهد من أجل بلده، من أجل أن لا تقع بأيدي الغرباء ويصير أهلها فريسة سهلة للضياع، لكن ما استشهد لأجله فؤاد ورفاقه ضاع، وخرج من صلب صفد من ينكر حق فؤاد وأهله فيها. فؤاد حجازي ما كان ليسكت عن ترّهات محمود عباس!
«لكنني مُصرّ على موقفي وكلامي»، يقول
صديقي بعدما حاول أن يخفف من حدة ردة فعلي التي لم يتوقعها (ولا أنا كذلك).
تذكرت حينها موقفي مما يحدث في سوريا، وكم من «صديق» خسرت لأجله، وكم من «صديق» كسبت، ورغم أنه كان واضحاً إلّا أن العديدين أساؤوا فهمه. لكن ربما في نهاية المطاف معه حق، لقد سكت طويلاً، لعدة أسباب، توقفت عن الكتابة كذلك، وانزويت أشاهد ما يدور في هذا الكوكب، واختنقت.
تذكرت كم ربطت نفسي دائماً باللاجئين وحلمت معهم بالعودة، كم فكّرت بأن أخرج وألّا أعود إلّا الى وطن يحمل اسمي فيه، ولي فيه مكان، لا مكان أشعر فيه بأني غريبة بدلاً من أن أكون من أهله وأصحابه. تذكرت كم مرة شعرت بالعجز، بالرغبة في التغيير، بالرغبة في الصراخ، وصمت. كم أشعر بالعجز والغُربة...
إن أكثر ما يثير «القرف» (واعذروني)، هو أن هوية القاتل صارت مهمة أكثر من فعل القتل وهوية الضحية، فصار الجلاد مهماً أكثر من ضحيته. أما أنا، فلا يهمني المجرم، حقاً لا يهمني، لا يهمني من قصف المخيم، ومن يقتل الناس يومياً، لأنه مجرم أياً كان، لكن يهمني أولئك الذين يموتون يومياً ولا أحد يذكر اسمهم، ربما لو تغيّرت الأقدار لكان أحدهم أخي؟ أو أبي؟ أو أمي؟ أولئك الذين يموتون وهم يحلمون بخبز يومهم، الذين لا يهمهم من يكون الرئيس، ما دام ابنهم سيكبر ليدرس في الجامعة، ثم يتزوج الفتاه التي يحب... ألم يحن الوقت ليتوقف القتل، ليتوقف الموت، وليعود الحق لأهله والبلد لأصحابه؟ ألم يحن الوقت؟
أنا حقاً لا أعرف الإجابة عن كل هذه الأسئلة، وألف سؤال آخر يدور في خلدي. كلهم على حق، كلهم يعرفون مصلحة الوطن ويظنون أن طريقهم هي الصحيحة وأنهم مؤلّهون ومقدّسون ومعصومون عن الخطأ، لكن لا أحد فيهم، لا أحد، يفعل شيئاً ليحيا البشر في هذا الوطن الممتد على مد النظر، حياة كريمة!
في هذا الكون الظالم لأهله، لا أستطيع، ولا يحق لي (ولا لغيري كما أظن)، أن ألوم الله على ما وصلت إليه حالنا، فنحن من أوصلنا أنفسنا الى هذا المدى من الظلم، وخروجنا من هذا المستنقع بأيدينا نحن، لكن كيف؟ كيف؟ أنا حقاً لا أدري ولا أجد جواباً...
سوريا، فلسطين، مخيمات، محمود عباس، لاجئون، حريّة، نظام، جيش، بشار الأسد، معارضة، حدود، دولة، استقلال، ثورة...
رائحة الموت تخنقني... أشعر بالعجز ولا ضوء يلوح في الأفق... النجدة.
الجليل ـــ أنهار حجازي