غزّة | «لأنّ غـزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء. لأن غـزة جزيرة كلما انفجرت، ولا تكف عن الانفجار، خدشت وجه العدو وکسرت أحلامه. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل مدى مقاومته للاحتلال، هذه هي المنافسة الوحيدة هناك. وغزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية»، يصف محمود درويش مقاومة غزة واستحقاقها للحياة. «لأنّها أشد قبحاً في عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة. لأنها أشدّنا قدرة على تعکير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات... لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأکثرنا جدارة بالحب»، يتغنى بها درويش.
عدوان إسرائيلي جديد يريد الانتقام من غزة وأهلها. تتبادل فيه طائراته الحربية وزوارقه البحرية ودباباته البرية قصفاً عشوائياً يستهدف منازل الغزيين وأراضيهم. علّ وعسى يكون لضربتها الرادعة هذه المرّة أي نفع، لكن يبدو أنها لا تريد أن تتعلّم الدرس، أنّ غزّة لا تُردع لأنها في كل موت تولد من جديد.
اعتاد الغزّيون العدوان الغاشم والظالم. ويوم أمس، باشروا تهيئة أنفسهم لتلك الأيام العصيبة المقبلة، في ظل أجواء تذكر بعملية الرصاص المصهور أواخر 2008. صور سريعة مرّت في أذهانهم. زفّ آلاف الشهداء ومداواة عشرات الآلاف من الجرحى، والاهتمام بعدد كبير من الجرحى الذين سيعيشون ألم الإعاقة الدائمة، وآلاف المنازل المدمرة، إضافة إلى تدمير البنية التحتية التي هي بحاجة إلى عشرات السنوات من أجل إعادة إعمارها، كما حدث قبل سنوات قليلة، لم ينسوها بعد، لذلك بدأوا الصلاة كي لا تطول فترة التصعيد، ولا تكون بحجم إجرام تلك الحرب البغيضة.
وسيطرت حالة من التوتر والقلق والترقب على الأهالي، رغم أنهم كانوا يتوقعون شنّ إسرائيل ضربات جوية ضد أهداف مرتبطة بكوادر يتبعون لفصائل المقاومة الفلسطينية، في مقدّمتها حركة «حماس» التي تعتبرها إسرائيل المسؤولة الأولى والأخيرة عن إطلاق الصواريخ من القطاع باتجاه المناطق المحتلة، على اعتبار أنها حاكمة القطاع.
وتحاول إسرائيل جرّ فصائل المقاومة إلى مربع التصعيد العسكري الفعلي، وذلك بعدما تبين لها أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة العسكرية، عبر استهداف الجيب العسكري الإسرائيلي الذي أوقع 4 إصابات بين صفوف جيش الاحتلال، حالة أحدهم حرجة جداً.
وسرعان ما خلت الشوارع من المارة بعد عملية الاغتيال الإسرائيلية التي استهدفت الجعبري. لكن «الأجواء الماطرة على القطاع هي التي حالت دون توجيه الضربات الاسرائيلية القاضية للمقاومة في غزّة»، حسب قول المواطن محمد أبو غريب (40 عاماً)، الذي كان يسارع من أجل العودة إلى بيته، بعدما تلقّى صدمة رؤية الصاروخ الإسرائيلي وهو يسقط على السيارة التي كان يستقلها الجعبري، وللحظات ظنّ أنّه لن يرى أبناءه مرّة أخرى، ما دعته نفسه إلى مزاحمة السيارات الموجودة في المكان، والتي هي أيضاً باشرت المسارعة الى الفرار من مكان الحدث، خوفاً من استهداف آخر من قبل طائرات الاحتلال التي كانت تحوم فوق المكان. ويقول أبو غريب إن «غزة مقبلة على تصعيد كبير في حال ردّت فصائل المقاومة، وخصوصاً حركة «حماس» التي كانت تعرف إسرائيل ما الذي تفعله باغتيالها للجعبري»، مضيفاً: «الليلة ستكون الحاسمة لنا؛ ففي حال ردت «حماس» على اغتيال قائدها العام، فإن إسرائيل سترد بقوة أكبر، وسيقع عدد كبير من الضحايا في صفوف المواطنين».
ويتخوف من أن يجري استهداف منازل المواطنين عشوائياً، وأن تنتقم إسرائيل من أي شيء فلسطيني، كما حدث في كثير من مجازرها السابقة، في حين أنّ المواطن حسن عبد (39 عاماً) يعتقد أنها «ما هي إلا ساعات أو أيام قليلة حتى تتحول دماء الشهيد أحمد الجعبري إلى نار تأكل الاحتلال»، مشيراً إلى أنه «لا خوف على المقاومة، وأنه لا شك في قدرتها على الرد»، معتبراً أن حكومة بنيامين نتنياهو تخوض حرباً يمينية فاشلة، وأنها لن تحقق أهدافها.
أما بالنسبة إلى النساء، فحال لسانهن لا ينفك عن الدعاء بالستر من عواقب التصعيد في القطاع، وحماية أطفالهن من صواريخ لا تميز بين كبير وصغير ولا بين مقاوم ومسالم، وخصوصاً أنهن يحاولن تهدئة أطفالهن الذين سرعان ما يصرخون بعد كل صاروخ يدوي صوت انفجاره في المنطقة.
أما تلامذة غزّة فلن يذهبوا الى المدارس اليوم، سيحتمون مع أهاليهم من غارات الاحتلال الغاشمة، وذلك بعدما أعلنت وزارة التربية والتعليم في حكومة غزة تعطيل الدراسة يوم الخميس، في المدارس والجامعات، حتى إشعار آخر؛ فهؤلاء كانوا أكثر ضحايا كل عدوان إسرائيلي، الذي تركهم إما شهداء ملائكة، أو مبتلين بأمراض نفسية، إذ إنهم عادة ما تسبب لهم الغارات الاسرائيلية خوفاً وهلعاً وحالات نفسية تحتاج الى الكثير من الوقت والعلاج كي يتجاوزوها. تلك هي حالة هناء، ابنة العشرة أعوام، التي تجول الشوارع على مقربة من الميناء، وهي ترتعب خوفاً، منذ عدوان 2008. اليوم تعيش هناء نوبات هلع جديدة بفعل الغارات والقصف ورعد الصواريخ ومشاهد الموت.
حياة أسر كثيرة في القطاع لن تكون كما كانت قبل أمس. حياة عائلة المشهراوي التي ارتكب الاحتلال بحقها مجزرة حقيقية، سترتدي الأسود؛ ففي إحدى الغارات الاسرائيلية، قُصف منزل جهاد المشهراوي، ما أدى إلى مقتل المواطنة هبة المشهراوي (19 عاماً) والطفل الرضيع أحمد المشهراوي (11 شهراً)، وإصابة معظم سكانه. ليالي عائلة يوسف عرفات المقبلة ستكون مظلمة كظلم الاحتلال، بعدما استهدفت إحدى الغارات منزله ما أدى الى مقتل طفلته رنان (3 سنوات)، وإصابة معظم أفراد الأسرة.
من جهة ثانية، فإن آراء المراقبين لا تخفف من أهوال الحرب التي يعيشها أهالي القطاع. المحلل السياسي أكرم عطا الله توقع أن تذهب المنطقة باتجاه حرب حقيقية، وقال إن العملية الإسرائيلية «تضع المقاومة أمام خيارين لا ثالث لهما، أوّلهما أن تقوم فصائل المقاومة بالردّ عليها، وبالتالي مواصلة التصعيد، في ظل توجيهها ضربة قوية للجهود المصرية في إبرام التهدئة، أو أن تصمت المقاومة على الأقل في الوقت الراهن وبالتالي تكون أعطتها الضوء الأخضر لاستباحة دماء الفلسطينيين».
أما المحلل السياسي طلال عوكل فيقول إن «موجة التصعيد لها بداية ولها نهاية، ولكنها لن تكون الأخيرة، لأنها لا تشبع غرور أولئك المستوطنين الذين يريدون الرد القاسي على تساقط الصواريخ عليهم، مدّعين أنها توقع عدداً كبيراً من إصابات الهلع».