يتواصل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. ينتهي اليوم الخامس، مع استمرار القصف والغارات والقصف المضاد بين الجانبين. مع ذلك، كلاهما يؤيدان وقفاً لإطلاق النار، والاختلاف على الثمن، المقبوض والمدفوع. وطالما أنّهما لا يريدان مواصلة القتال، ولا يضعان نصب أعينهما أهدافاً متطرفة، فإن التسوية مقبلة.
من جهة الفلسطينيين، لا يمكن وقف إطلاق النار من دون إنهاء حصار غزة، بغضّ النظر عن الصيغة التي سيتمّ من خلالها تحقيق ذلك. كما أنّه لا يمكن وقف إطلاق النار، من دون تعهدات والتزامات إسرائيلية، بأنّ سياسة الاغتيالات لن تستأنف لاحقاً في أعقاب الهدوء، ووقف الأعمال العدائية بين الجانبين.
في المقابل، كما حصل مع الدولة العبرية في مواجهاتها مع حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، عرفت إسرائيل كيف تبدأ عدوانها، ولكن النهاية لم تكن كما خطّطت وأملت. من ناحية تل أبيب، كان يفترض باليوم الأول للعدوان، أن يكون أيضاً، اليوم الأخير منه. افترضت الحسابات والمعطيات الاستخبارية أنّ الغارات الجوية الابتدائية ستنهي تهديد الفصائل الفلسطينية في غزة، وتشلّ قدراتها الصاروخية، وبالتالي لا يبقى أمامها سوى البحث عن مخرج، مهما كان، في مقابل إملاء إسرائيل شروطها عليها.
حسابات الميدان كانت مغايرة. صمد الفلسطينيون، وليسوا في موضع يتقبّل الشروط، من دون شروط مقابلة. في الوقت نفسه، يدرك الطرفان أنّه ليس أمام إسرائيل كي تفرض شروطها إلا اللجوء إلى الاجتياح البري للقطاع، أو لأجزاء أساسية فيه، لكنهما يدركان أيضاً أنّّ هذا الخيار متعذّر، كونه يشكّل مقامرة لا يعرف أحد إلى أين تؤدي. بمعنى أنّ الخيار البري مغامرة، وقد يجرّ إسرائيل إلى ما لا تريده، ولا تقوى عليه. هذا ما تدركه، والمشكلة لديها أنّ الفلسطينيين أيضاً يدركونه.
في الجانب الثاني، لا يوجد لدى الفلسطينيين، الكثير مما سيخسرونه: حصار قطاع غزة قائم في الأساس، براً وبحراً وجواً. والقصف والتدمير طال مؤسسات سلطة حركة حماس على أنواعها، السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكن في مشهد الحصار والتدمير والإصابات، هناك نقاط مضيئة فلسطينية واضحة: قدرة فاعلة على إطلاق الصواريخ على أنواعها، وعلى مديات طويلة جداً، وقدرة على استيعاب الضربات الفجائية الوقائية، التي كانت إسرائيل تعوّل عليها كثيراً.
وعليه، لا يمكن إلا «رفع القبعة» للفصائل المقاومة في غزة، التي تطلق ما يقارب نحو 200 صاروخ يومياً، وهو أمر غير مسبوق، وغير سهل من الناحية الميدانية والاستخبارية واللوجستية، وخاصة أنّ المقاتلين يتحركون في بيئة قتال صعبة، وكل ما يجري فيها على مرمى العين الاستخبارية لإسرائيل.
وإذا كانت الحلبة الميدانية مشتعلة، فإن الحلبة السياسية والتفاوض غير المباشر مشتعل أكثر. كل جانب يتمسك بشروطه، ويعضّ على الإصبع، ويصارع على الشروط والشروط المضادة: إسرائيل مستعدة للعودة إلى ما قبل العدوان، أيّ وقف إطلاق نار مقابل وقف إطلاق نار، مع تعهدات طرف ثالث بعدم خرق الهدنة، طويلاً. من ناحيتهم، يتمسّك الفلسطينيون بشروطهم، وفي مقدمها إنهاء الحصار، ووقف عمليات الاغتيال لقادتهم.
المواقف والتصريحات الإسرائيلية، وما يرشح ويتسرّب عن المسؤولين السياسيين والعسكريين، والنقاشات التي تدور في جلساتهم واجتماعاتهم، تشير إلى أنّ الشروط الفلسطينية لوقف الجولة الحالية من القتال، باتت مقبولة من قبل الجانب الإسرائيلي، لكن جهد تل أبيب، إن ميدانياً أو من ناحية التفاوض السياسي غير المباشر، الدائر في القاهرة تحديداً، ومن خلالها باتجاه العواصم ذات الصلة، ومنها واشنطن، يركّز على الثمن الذي تريد إسرائيل أن تقبضه، مقابل فكّ الحصار عن غزة، بما يشمل مداه والضمانات حوله، وطريقة وشكل إخراجه إلى العلن.
الشرطان الفلسطينيان، الواردان أعلاه: فك الحصار ووقف الاغتيالات، لا يعدان شرطين متطرفين، في ظل صراع تل أبيب مع الوقت، وإدراكها أنّ كل يوم يضاف إلى المواجهة يُراكم الخسائر ويُقلّص من قدرة ردعها وفاعلية الكسب الابتدائي الذي جبته في بداية المواجهة، علماً بأنّ كلا الطرفين يدركان جيداً أنّ تل أبيب تخشى العملية البرية، رغم تهويلها بها. الشروط الإسرائيلية تتعلق بضمانات ما بعد وقف إطلاق النار، لكنّها تشمل مطالب قد لا يمكن الوصول إليها. ومما رشح عن تل أبيب: ضمان مصري وأميركي علني، أنّ فك الحصار عن غزة لا يجري استغلاله لإدخال سلاح إلى القطاع، وأيضاً بأن لا يصنع السلاح فيه. أيضاً، إيجاد آلية رقابة دولية، على المعابر وداخل القطاع. وأن تكون السفن المتوجهة إلى قطاع غزة منطلقة من موانئ أوروبية محددة، وأيضاً، ضمان بعدم تنفيذ عمليات ضد الجنود الإسرائيليين بالقرب من السياج الحدودي على القطاع.
إلا أنّ التسوية، التي تشغل الأطراف في القاهرة، ومن بينهم الطرف الأميركي، من شأنها أن تليّن الشروط والشروط المقابلة، باتجاه مخرج ما، يؤدي في نهاية المطاف إلى إقرار التسوية، لكن القدر المتيقّن هو أنّ الحصار على غزة جزء لا يتجزأ من أي تسوية مقبلة.
مع ذلك، فإن الوصول الى الاتفاق المنشود دونه عقبات. قد يرى الإسرائيلي أنّ مواصلة القتال، فترة أخرى، مع تحرّك بري محدود، من شأنه أن يضغط أكثر على الطرف المقابل، ويجبي منه أثماناً أكثر، لكن هذا الخيار التهويلي يعدّ مقامرة، ويستلزم أن لا يطول كثيراً، إن امتلكت القيادة الإسرائيلية الجرأة على اتخاذ القرار. وفي كل الأحوال، بات من الصعب أن لا تتضمن أيّ تسوية أو اتفاق تختتم به المعارك، فتحاً للمعابر، (على الأقل البرية)، بين غزة والعالم الخارجي، فيما يتمحور جهد الطرفين حول تقليص أو توسيع الثمن المقابل، على أمل أن لا تمارس دول عربية ضغوطاً إضافية على المقاومة في غزة، من أجل القبول بصيغة توحي بإنجاز ما لنتنياهو، وجيشه المعتدي.
وهكذا تتمكن قوى المقاومة، مرة أخرى، من تحطيم الشعار الذي طالما تغنى به اليمين الإسرائيلي، «ما لم يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة». إنه إنجاز يضاف إلى الإنجازات المتوقع تحقيقها قريباً، بأن تجبر تل أبيب على التسليم بمحدودية قدرتها وقوتها على فرض إرادتها وشروطها.