غزة | تهرع سيارات الإسعاف بسرعة أشبه بالصاروخ، محمّلة بضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، ومتجهة الى المستشفيات في كافة المحافظات، تتحدّى الصعوبات والمخاطر لإنقاذ حيوات بشرية قرر العدو الغاصب أن ينتزعها. مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزّة هو المستشفى الأكبر والأفضل من ناحية الإمكانيات اللوجستية وغرف العمليات المتكاملة، لكنه في هذه الأيام الأحوج إلى كميات من الدم، بدأت بالنفاد بسبب كثرة عدد الضحايا من الجرحى الذين توصف حالة أغلبهم بما بين المتوسطة والخطرة. صرخات أمّهات يبكين جثث أبنائهن الممزقة إلى أشلاء، واستغاثات أخريات للأطباء يرجونهن أن ينقذوا فلذات أكبادهن، وبكاء أطفال في عمر الزهور موجودين في صالة الاستقبال التابعة للمستشفى، يرون أفظع المشاهد التي تبدو كبيرة كثيراً على سنّهم الصغيرة؛ يخافون فيهربون من زاوية إلى أخرى علّهم يحجبون أنفسهم عن الحشود. واكتظت ساحة المستشفى، أيضاً، بمواطنين حضروا بسياراتهم الخاصة ليوصلوا ضحايا، بعدما انتظروا طويلاً سيارات الإسعاف لكنها لم تتمكن من المجيء بسبب كثرة المناطق المستهدفة في القطاع.
آهات واستغاثات تخرج من أفواه الجرحى، وخصوصاً حين ينظرون إلى أجسادهم ويرونها عائمة في بحر من الدم. يظن الواحد منهم للحظة أن ساعته قد حانت وأنه مفارق للحياة لا محالة، في حين يفقد الكثير منهم الوعي، ولا يشعر بنفسه إلا وهو على سرير النقاهة، فيبدأ بتذكر ما حدث معه، ويبكي حرقة على ما يجري لشعب أعزل لا يملك شيئاً من مقومات الدفاع عن نفسه سوى الثقة برجال المقاومة الذين قد يستطيعون تسديد ضربات لعدوّ لم يرحم طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً طاعناً في السن.
الجريح عبد الله عودة يتحدث إلى «الأخبار» عن إصابته بشظايا الصاروخ وهو جالس مع مجموعة من رفاقه، وهو ما أدى إلى بتر ساقه. ويقول «أتيت إلى هنا وأنا بكامل وعيي، رغم أنني فقدت ساقي، لكنني لم أكن أشعر بها ولم أرها، وحين رأيتها صرخت بأعلى صوتي وبعدها فقدت وعيي، وحين استعدته وجدتها ملفوفة».
وفي زاوية ليست ببعيدة عن مدخل الاستقبال في المستشفى، تجلس طفلة صغيرة غسلتها دماؤها، كانت قد أجلستها ممرضة بعد إسعافها، ووضعت ضمادات من الشاش الأبيض على رأسها الصغير المصاب. تنظر تلك الفتاة بخوف ورهبة، يبدو عليها الاستغراب، لا تعرف ماذا تفعل هنا، وكأنها تنتظر أحداً وهي تراقب باب الاستقبال، ودموعها تتساقط، تريد أن ترى أي شخص تعرفه علّه يشرح لها الأمر. تقول «كنت في المنزل، وفجأة سقط الجدار على رأسي، ولم أستفق إلا عندما كان يحملني رجل إسعاف ويضعني في سيارة الاسعاف مع جثة شهيد ومجموعة من الأطفال لا أعرف أحداً منهم، قبل أن ينزلوني في المستشفى».
ولم تكد الطفلة تنهي روايتها حتى دفعت بنا بصورة مفاجئة وركضت بسرعة نحو الاستقبال، تصرخ «أخويا، أخويا»، وحاولت أن تمسك بيده، لكنها كانت باردة، فهو قد فارق الحياة بعد استهداف منزل لعائلة عودة في حي الزيتون في مدينة غزّة. عندها أمسك بها عمّها محاولاً تهدئتها من هول ما صُدمت به، لكنها بدأت بالصراخ بصورة هستيرية.
وفي زاوية أخرى، رجل يبكي بحرقة على أخيه الذي وصل جريحاً بحالة الخطر الشديد، وكان بحاجة إلى غرفة عمليات بسرعة، لكن تلك الغرفة كانت ممتلئة، وفيها أكثر من جريح تُجرى لهم عمليات، فبقي يصارع الموت، لكنه باغته وغيّبه عن الحياة، دون أن ينتبه إليه أحد من الأطباء. يمسك الشاب برقبة طبيب لم يكن موجوداً في المكان ويحمّله مسؤولية موت أخيه، متّهماً إياه بالإهمال، في حين يحاول الطبيب أن يهدّئ من روعه ويخبره بأن المستشفى ممتلئ بالجرحى، ولا يجدون مكاناً، وهو يرى ذلك بنفسه، وعليه أن يصلي لكي يرقد أخيه بسلام.
أما جثث الشهداء التي تصل إلى المستشفى أشلاءً فيجري لفّها ووضعها في أسرة، ربما يتشارك أكثر من شهيد سريراً واحداً، كما يتشاركون الثلاجات التي يوضعون فيها الى حين أخذهم من قبل ذويهم ودفنهم كي يرقدوا شهداء بسلام. ولعلّ أكثر ما يثير الألم والحزن هم الأطفال المستلقون على الأسرة في المستشفى، تملؤهم أجهزة التنفس والقلب. وبسبب قلة عدد الأسرّة يجري علاجهم في أروقة المستشفى الضيقة لسرعة توافد المرضى في هذه الأوقات.
الطفل محمد الشرافي يصرخ وينادي «بدي دكتور، بدي دكتور»، وقد أُصيب في رأسه وقدمه، لكنّ دوره في العلاج لم يصل بعد، الى أن أشفقت عليه «الآذنة»، التي تنظف الأرض، وأحضرت له بعض المطهر والشاش كي تخفف من ألمه وخوفه.
أطباء أصبح زيّهم الأبيض أحمر اللون من كثرة الدماء المتناثرة عليه. يحاولون أن يبذلوا كل جهدهم من أجل إنقاذ الضحايا، لكن قد يخونهم الوقت، ما يسهم في أن يخطئوا في تقدير من الأولى من الجرحى للدخول الى غرفة العمليات التي لا تستريح أبداً على مدار الـ24 ساعة، وقد يقوم بعض الأطباء بإجراء عمليات ليست بالخطرة، لكنها عاجلة، تحت الدرج، بحيث يوضع ستار حاجز، وتُجرى عملية كاملة التخدير، خوفاً من فقدان المريض. الطبيب محمد المصري لم يعد إلى منزله سوى ساعة واحدة ليلة أمس، كي يبدّل ملابسه. ولم يستطع النوم من هول المشاهد المحزنة لجثث الضحايا، يقول لـ«الأخبار» «هذه الأيام تذكرني بأيام عدوان 2008، المشاهد نفسها، اليوم أفظع؛ فأغلب الإصابات التي تصلنا يكون فيها بتر للأطراف». وأجرى المصري أكثر من عملية تحت الدرج، كان من بينها عملية توليد امرأة، وكان زوجها ينتظر خلف الستار، لقلة وجود أماكن تكفي لاستقبال كافة المرضى.
وفي ظل التصعيد العسكري وتزايد عدد الشهداء الجرحى، فإن المستشفيات تعاني من كارثة إنسانية؛ فهي تشتكي من قلة الأدوية والعلاجات، حيث يؤكد المدير العام للعمليات والطوارئ في مستشفى الشفاء، ناصر القدرة، أنه بفعل الحصار الإسرائيلي للقطاع، تنقص كميات الأدوية اللازمة للعلاج، ويطالب بضرورة توفيرها حتى لا يصلوا إلى مرحلة لا يجدون فيها ما يعالجون به الضحايا.
ولا تصل الإصابات إلى العلاج بسهولة؛ سائقو سيارات الإسعاف جنود يخاطرون بحياتهم تحت القصف لإنقاذ حياة الآخرين. حين يتوجهون الى أماكن الاستهداف، يكونون بين نارين، الأولى إنقاذ المصابين والثانية حماية أنفسهم لإتمام عملية الإنقاذ. يؤكد المسعف إبراهيم حمدونة (55 عاماً) لـ«الأخبار» أنّه حين يخرج في كل مرّة لانتشال الضحايا يشعر بأنها ستكون الأخيرة له، نظراً إلى غدر الاحتلال الإسرائيلي بهم دوماً، وأنه قد يتعرض بدوره للقصف والتصفية.