مش عن غزّة
احبائي هناك في غزة
يقشعرّ بدني لدرجة الألم. قلبي سيتوقّف من الفرح. أنعيش حقاً هذه اللحظات؟ أأصبحنا حقاً في موقع القوة؟ أوصلنا حقاً إلى الوقت الذي أصبحنا فيه قادرين على قصف تل أبيب والقدس؟ القدس (وتكرّ الأحلام والقصص والطعمة السكرية التي تبعثها فينا هذه الكلمة، كمكعّب السكر نبات تذوب في الفم والقلب في الوقت ذاته)؟ أنصلهما في هذه الحياة؟ كنّا نظنّ أن أولادنا ربمّا سيفعلون ذلك. واثقات وواثقين من أن هذا سيحصل، لكن ليس في زمننا.
كل شيء يدلّ على أن هذا سيحصل. نحن نعلم. لكن كيف ومتى وتحت أية ظروف؟ لا نعرف، وأصلاً فإن «الظروف الحالية» لم تكن توحي بالخير. تشرذم وضياع للبوصلة وانحسار لطاقة الحراك العربي: بشير إحباط آخر على الأبواب.
ثم حدث ما حدث، وفاجأتنا غزّة... ربّما أكثر ممّا فاجأتهم. ووجدنا أنفسنا في وضع لم نعهده من قبل.
«شادنفرويده» (Schadenfreude) كلمة المانية ومعناها «التلذّذ بمآسي الآخرين».. وهذا ما وجدنا أنفسنا مذنبات ومذنبات به في الأيام القليلة الماضية. ذنب عدّ الصواريخ والضحايا، ذنب الفرح من توسّع رقعة الاشتباك، ذنب دقّات القلب السريعة التي تتالت عند كل اسم مستوطنة جديدة تطاولها الصواريخ، ذنب متعة الثأر في سماع صراخ تينك المجندتين وكأنهما لم تتدرّبا في أحد أكثر الجيوش تطوّرا.. لذّة تذوّق كل هذا وكأننا لم نكن نتوقّع حدوثه بهذا القرب.
أقول بأننا لم نكن نتوقّع حصوله بهذا القرب، لأننا لطالما توقّعنا حصوله؛ منطقنا يوصلنا إليه فهي حتمية تاريخية تقول بضرورة زوال هذا النظام بكل أدواته، وفي مكان ما، هذا أيضا ما قاله لنا أهلنا وعجائزنا. لكن، ربّما لأن الاحتلال حقيقي وملموس مقابل ضعف حكوماتنا وتبعيتها وفقر حالنا، كل ذلك جعلنا نظن بأن النظريات صعبة التحقيق، حتى ولو كانت الحق بعينه.
فالمجتمع الدولي يعترف بـ«دولة إسرائيل» ومعظم الحكومات العربية طبّعت ظاهريا أو بالخفاء والباقي «على الطريق»، والفلسطينيون مرميّون في مخيمات تحت ضغط التوطين أو الذبول في انتظار أبدي. أما في الداخل، فالضغط الاقتصادي وسرقة الأراضي والجدار الفاصل وانفصال السلطة عن الشعب أو ذل العيش تحت الاحتلال.. كلّها حقائق ملموسة لواقع من العسير أن نغمض عنه العين لنتخيّل صورة لفلسطين التاريخية بلاجئيها العائدين، دون خوذات الاحتلال والأحرف العبرية في كل مكان. حتى اللغة أصبحت عنفا.. وحتى المكان. أصبحنا نرى في كل المباني التي تشبه بعضها البعض، مباني المستوطنات المعلّبة، دليلا على الاحتلال. نراها وينهمك ذهننا بتصوّر ما كان قبلها.. وكيف يمكن أن تكون الحياة إذا ما عدنا نعيش هناك، كيف سنتذّكر أسماءها، نسأل عجائزنا تسمية الأماكن وسرد قصصها.. ثم نعود إلى «الواقع» ننفض عنّا غبار الحلم.
معقدة أسامي المستوطنات. صعبة للحفظ. حتى أنني لا أذكرها في هذه الثانية بالذات. ربّما لأن ذاكرتي أصبحت ضعيفة، أو لأن الحاجة إلى حفظها غير موجودة.. لأنها لن تبقى هنا لفترة طويلة. العقل يعرف أكثر ممّا نظن.. ويرفض حفظ المؤقت. لكن غزّة نظرت في عين هذه «الحقائق» وقالت ليذهب كل هذا إلى قاع البحر.
فتحت غزة أعيننا.
هي بالأحرى صفعتنا بكامل قوة ساعدها ونحن لم نستفق بعد من دوار الصفعة.
هل النظام حقا هش لهذه الدرجة؟ إنه هشّ بهشاشة خوفنا، هذا ما قالته لنا غزّة.
فعلت غزّة ما فعلت ووضعتنا أمام «الحقيقة» هذه التي نخاف، أمام ضعفنا وفقرنا وقلّة حيلتنا. شدّتنا من شعورنا، وضعت عيوننا المنهكة أمام الضوء وقالت «أهذا ما تخافون؟ أنا، بكلّ ضعفي وسأمي ووهن الفقراء فيّ، أبصق في وجهها.. أروني ماذا تفعلون أنتم؟».
في هذه الأيام التي أعلنت فيها غزة الحرب على الصهيونية، لم أسمع موسيقى. لم أضع أغاني عن المقاومة والأرض والدم السائل في الشوارع. لم أبحث عن مؤازرة أو دعم أو شعر يذكّرني لماذا لا نزال على هذه الأرض ولم نستلّ أية أداة حادة ونقطع شرايين المعصمين ونترك هذا الجحيم. لم أبحث عن شعر يثبّت فيّ الوعي والإيمان بما أعرف أنه الحق. كانت غزّة أغنيتي، شِعري القاتل، ترنيمتي التي تبدأ بصوت انطلاق الصاروخ من أحشائنا وحتى سقوطه في عيونهم. غزة ترنيمتي، تجعلني انام في الليل وانا اعرف بأن الغد لنا وبأن ما قرأناه وما سمعناه وما نعرف أنه الحقيقة بدأ بالتحقّق. هذا يا اصدقائي هناك، ليس مقالا عن غزّة، بل عمّا فعلتموه وفعلته غزة بهم.. وبنا.
تسقط طائرة كانت ترسم بدخان قذائفها هيبة كيان ينتظر الزوال. تسقط، ويسقط معها حلم شعوب ستبحث في أبرد ثقب من سيبيريا، في أوحش سهل من سهول روسيا، في أعلى قمة من جبال ألمانيا، لتختبئ من نفسها وتحاول أن تنسى 64 عاماً جلست طوالها على صدر شيخ فلسطيني تأكل من بيدره.
جنى نخال