بأسلوب رجل الأمن الذي يعتمد المباغتة والتضليل، ألقى وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، قنبلته بإعلانه اعتزاله العمل السياسي الحزبي، في موقف مفاجئ في توقيته، لكونه أتى من دون مقدمات ظاهرة تشير إلى إمكانية اتخاذه مثل هذا القرار. لكن في المقابل، قد يكون هذا الموقف الأكثر انسجاماً مع واقعه السياسي والشعبي، وخصوصاً أن استطلاعات الرأي تؤكد أنه قد لا يتمكن من تجاوز نسبة الحسم التي تؤهله للدخول إلى الكنيست، وإن حصل فسيكون ضمن طاقم نيابي مقلَّص يُكرِّس ضعفه السياسي ومحدودية تأثيره على الخيارات السياسية للحكومة ولدولة إسرائيل، رغم محاولة نفيه أن يكون التردي في مكانته الشعبية سبباً لهذا القرار. لكن، تجدر الإشارة إلى أن باراك كان قد استنفد محاولات سابقة، تجنبه الاضطرار إلى الاختيار بين الاعتزال أو الطرد من قبل الجمهور، عبر سعيه مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إلى أن يضمن له موقعاً محصّناً في قائمة مرشحي حزب الليكود إلى الكنيست، بدلاً من أن يكون رئيساً لقائمة منافسين في الانتخابات، (عتسمؤوت/ استقلال)، لكن معارضة نتنياهو، أو المعسكرات المؤثرة داخل الليكود، حالت دون تحقيق آمال باراك.

في المقابل، وبالرغم مما تقدم، ما سيكون أكثر حضوراً في وعي الرأي العام، حقيقة أن قرار الاعتزال أتى بعد عملية «عمود السحاب»، لكن الربط بين الأمرين يصح لجهة أنها كانت تشكل فرصة لباراك كي يختم حياته السياسية بإنجاز أمني وسياسي لإسرائيل. إلا أن مجريات المعركة ونتائجها لم تحقق هذا الأمل.
من جهة أخرى، رغم أن باراك أعلن موقفاً صريحاً ومباشراً بالاعتزال وعدم ترشحه للكنيست في الانتخابات المقبلة، بعدما أمضى سبع سنوات ونصف سنة في منصب وزارة الدفاع، إلا أنه ترك العديد من الأسئلة المفتوحة، منها غموض موقفه من إمكانية توليه حقيبة الدفاع إن طُلب منه ذلك بنحو شخصي. وإمكانية أن يتخذ وزير دفاع مستقيل من الحياة السياسية والحزبية، في حكومة «تصريف أعمال»، قرارات استراتيجية كبرى سيكون لها تأثيراتها على إسرائيل والمنطقة العربية بأكملها. يأتي ذلك بعدما أكد أنه سيبقى في منصبه إلى حين تأليف الحكومة المقبلة، بعد ثلاثة أشهر، وبعدما قال في بيان الاستقالة: «أنا أتعهد لكم أنه سيكون هناك الكثير من التحديات الأمنية».
في كل الأحوال، لا ينسحب فشل باراك السياسي وتدني مكانته الجماهيرية على موقعه قائداً عسكرياً ترك أثراً كبيراً على الفكر الاستراتيجي لإسرائيل. لكن بحسب وصف المعلق السياسي في صحيفة «هآرتس»، آلوف بن، كان باراك إلى حد كبير أحد المبلورين الأساسيين للفكر الاستراتيجي العسكري الإسرائيلي، فهو الذي قاد الثورة التكنولوجية في الجيش، وشجع التجهز بأسلحة دقيقة، وبطائرات من دون طيار. كذلك شكلت نظرية «الروافع والضغوط» التي اعتمدها في المواجهات مع حزب الله وحماس، أساساً لتفعيل قوة نارية كبرى عن بعد، نُفِّذت للمرة الأولى في عملية «تصفية الحساب» في عام 1993، وفي الفترة الأخيرة في عملية «عمود السحاب» قبل أيام.
ولفتت «هآرتس» إلى أن أحداً حتى الآن لم يقترح نظرية عسكرية أكثر نجاحاً منها. وهو الذي قاد عملية الانسحاب من لبنان، عام 2000، وأسس بذلك لفكرة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة. كذلك تحوَّل اقتراحه للتسوية مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في كامب ديفيد عام 2000، إلى «معايير لمبادرة كلينتون».
وباعتبار أن حزب «استقلال»، الذي أسسه باراك بالانشقاق عن حزب العمل، مرتبط بشخصه بعيداً عن أي قضية أيديولوجية، من الطبيعي أن يُلقي اعتزاله قدراً من الضبابية، في أحسن الأحوال، على مستقبله كحزب وكأفراد.
إلى ذلك، لقي قرار باراك بالاعتزال أصداءً وردود فعل متفاوتة في الوسط السياسي الإسرائيلي، بدءاً من نتنياهو الذي شكره على «مساهمته الكبرى في الجيش وللشعب، والحكومة». أما رئيسة حزب العمل، شيلي يحيموفيتش، فعبّرت عن أسفها لاعتزال باراك، واصفة إياه بأنه إحدى الشخصيات الأمنية المقدرة في الساحة الدولية. والأمر نفسه ينطبق على تسيبي ليفني التي أكدت «مساهمته للدولة كجندي وقائد عسكري ورئيس حكومة ومواطن».