يسود اعتقاد واسع بين أهالي حلب بأن مدينتهم تُعاقَب من ريفيين انتهازيين هاجروا إليها، وتمتعوا بالوظائف الحكومية عبر انتمائهم إلى حزب السلطة. واليوم يعيدون إنتاج سلطتهم وينتقمون من المدينة نتيجة عدم انسياقها إلى الثورة على النظام. هذا المزاج يرى مثقفون سوريون، وغيرهم، أنه يمكن تفسيره بالنظر إلى أن الاحتجاجات في سوريا ذات طابع ريفي. يتمرد فيها الريف المهمش على المدينة الغنية، التي استردت في ظل حكم الأسد الابن كثيراً من نفوذها الاقتصادي الذي خسرته في ظل الأسد الأب، بعد التحولات الليبرالية الجديدة التي كان رمزها عبد الله الدردري، النائب الاقتصادي لرئيس مجلس الوزراء، القادم من مؤسسات التمويل الدولية.
ولعل الباحث السوري محمد جمال باروت، أشهر من روج لهذا التفسير، بعدما خرجت الاحتجاجات العنيفة الرافضة لحكم البعث من مناطق ريفية تمتعت بمزايا ونفوذ واسعين، كدرعا والرستن، وانضمت إليها لاحقاً مناطق واسعة من أرياف حمص وحماه وإدلب وحلب ودير الزور.

ريفية أم سلفية؟

لكن هذه المقاربة جوبهت بنقد من قبل اليسار الشيوعي ومثقفين كثر في المدينة. فوحيد سيريس، رأى «أن البعد الطبقي في الصراع أو ثورة ريف مهمش على مدينة ثرية هو مغالطة». ويرى أن «الريف الفقير جنوبي حلب وفي الرقة والحسكة والسويداء واللاذقية وطرطوس لم ينضم إلى الاحتجاج». وأوضح أن «حركة الاحتجاج انتشرت في مناطق ريفية تمدنت، وهي كانت تاريخياً حاضنة للإخوان المسلمين. كذلك فإنها لم تطرح أي مطلب فلاحي أو ريفي أو اجتماعي، ولم تبلور لها أي بعد اقتصادي».
بدوره، أشار الوزير السابق، حكمت بيازيد، إلى أنه «ليست كل الأرياف تحمل السلاح، وليس الفقر هو السبب، بل إن ما يجري هو حركة دينية تستند إلى ثقافة إلغائية نهلت من الإسلام السعودي». وأوضح أن «السلفية الجهادية هي المحرك الأقوى والأهم لما جرى ويجري». وأضاف: «الأرياف التي حملت السلاح هي أرياف غنية ارتبطت بعلاقات مادية مع الإسلام النفطي، أما تجنيد فقراء لحمل السلاح، فهو أمر موضوعي لا ينفي ذلك». ويرى أن المال النفطي «تغلغل في مناطق سورية متعددة لنشر الوهابية، والعمل المسلح تولته فئات منهم بالتوازي مع التظاهرات التي لا يوجد أي معطى ريفي وفلاحي في مطالبها سوى الجغرافيا».
أحد روائيي حلب من أصل ريفي، طلب عدم نشر اسمه، توقف عند أهمية «النظر إلى خريطة الاحتجاجات حيث المعاقل التاريخية للإخوان والسلفية». وأوضح «أن محور حلب ــ أعزاز شهد طفرة عقارية هائلة، جعلت أفقرهم خلال سنوات قليلة ثرياً حقيقياً ويملك عشرات الملايين فقط عبر ارتفاع سعر الأرض نتيجة اهتمام الحكومة بالمنطقة والانفتاح على تركيا». وأضاف: «هذه الطفرة رافقها استهلاك كبير، لكن العقلية بقيت دينية متزمتة، وليس الفقر عاملاً في التحرك إلا لدى من استُقطبوا بالمال».
إذاً، القضية وإن حملت شكلاً من التمرد الريفي الاجتماعي على المدينة في أحد وجوهها، إلا أن ذلك لا يلغي الحقيقة الأهم، وهي أن هناك صراعاً على مفاهيم. وانتشار الاحتجاج في الريف ليس مرده وجود قضية ريفية أو فلاحية، بل لأن التحرك في هذه المناطق أسهل وقبضة السلطة القمعية أضعف.
العلاقات في الريف، حيث الجميع يعرف بعضه، تعوق استخدام وسائل القمع. هاني عبد القادر، يشبّه العلاقة في الريف بين عناصر السلطة المكلفين نظرياً قمعَ التظاهرات، وبين عامة الناس بعلاقة «أبو نادر»، رئيس مخفر شرطة أم الطنافس الفوقا مع أهل القرية، في المسلسل الكوميدي السوري الشهير «ضيعة ضايعة»، ما استدعى عند تأزم الأمور الاستعانة بقوات مكافحة شغب من مدن مراكز المحافظات. وتوقف عند ما يعنيه ذلك من إرهاق وتشتيت لقوى السلطة، ما أتاح مجالاً أوسع للتعبير والتظاهر في الأرياف، وحتى إلى تكديس السلاح بشكل يسير لاحقاً.

ريف الحرية!

في الأشهر الأولى للأزمة، لم تشهد حلب، ريفاً ومدينة، تظاهرات تذكر. وفي رمضان 2011، شهد بعض الريف تظاهرات متفاوتة، ما لبثت أن اتسعت لتشمل بعض أحياء المدينة عبر ناشطين معظمهم من الريف والمحافظات الساخنة أمنياً.
«أبو أحمد»، وهو شاب من عندان قال: «حاولنا في بداية الثورة أن نحرك التظاهرات في حلب وفشلنا، أنا شخصياً تعرضت للضرب المبرح في جامع نور الشهداء في طريق الباب. لم أكد أهتف الله سوريا حرية وبس، حتى انهالت اللكمات على رأسي وسُلِّمت للاستخبارات».
الشاب، الذي يفتخر بمنهجه السلفي، ابتسم قبل أن يقول: «أهل حلب يحبون الحياة ويكرهون الجهاد، يفضلون الشوي والكباب على الحرية. الحمد لله في ما بعد، وبعد قدوم أبطال الجيش الحر لحماية التظاهرات تمكنا من الذهاب إلى حلب والتظاهر فيها واليوم حررنا قسماً كبيراً منها».
محمود، وهو موظف، لا يخفي دعمه للثورة قال: «الظلم هو الذي أدى إلى الانفجار في مارع. من بدأ الثورة هم أبناء عائلات الإخوان المسلمين الذين ظلمتهم الدولة ولم يُوظَّفوا». وأضاف: «سوء معالجة الدولة للأمر أدى إلى حمل السلاح بشكل كبير، دخل الجيش وقتل أبرياء بالخطأ، وتصاعد الغضب. حلب يجب أن تدفع ثمن الحرية كما دفعناه نحن. لا يوجد حرية ببلاش، ولكن الذين تعودوا العبودية يشعرون بمرارة طعم الحرية في البداية».
النشوة التي يشعر بها نشطاء الثورة من الريفيين بالغة، حيث يرون أنهم أسدوا خدمة تاريخية لمدينة حلب بتخليصها من «النظام الأسدي». ماهر، وهو طالب جامعي من ريف حلب الغربي، عمل في التنسيقيات قال: «الجامعة والمدينة الجامعية والريف هي من حررت حلب، أهلها جبناء، والقدر عاقبهم. فالدمار الذي حاولوا إبعاده عنهم، جاء بنفسه إليهم». وأضاف: «لو خرجوا في التظاهرات معنا منذ البداية لسقط النظام وجنبوا مدينتهم ذلك». واستكمل حديثه قائلاً: «قلة فقط وقفت معنا من أهل حلب، وقلنا لهم النظام سيدمر حلب بعد أن ينتهي من تدمير الريف، هو يريد تربية المجتمع ولوناً طائفياً محدداً من السوريين لكي يحكمنا 30 سنة مقبلة كما فعل في المرة السابقة، ولكن الزمن تغير». وأضاف: «كان يستخدم الريف لقمع الثائرين عليه في المدنية. واليوم الريف هو من ثار عليه ليحرر المدينة منه».
في مقابل هذا الطرح، يرفض آخرون فكرة أن الريف يحرر المدينة. وسيم، وهو جامعي أيضاً، رأى أن «الثورة هي لكل السوريين ريف ومدينة، وبلا تمييز ديني أو طائفي». ويرى أن «النظام هو من يلعب على أوتار التصنيفات، ثورتنا ليس فيها أي شعار أو كلام يميز بين الريف والمدينة». وأضاف: «الحلبيون حرروا مدينتهم من النظام المجرم لكي ينعم الجميع بالحرية».

تحرير حلب!

يستشهد أهالي حلب بما عوملت به مدينتهم من تهديد ووعيد. ويلاحَظ على ألسنة الأفراد العاديين ترديد حوارات سمعوها تواتراً عن التشفي الذي يظهره المسلحون السوريون، ومنها: «يجب أن تدفع حلب ثمناً لموقفها، هل تدمّر قرانا فقط، وهم يشوون اللحوم ويتناولون الكبة».
أحد زعماء المسلحين، ويدعى أحمد الفج، كان يخطب في المقاتلين عن أهمية المعركة التي يُعَدّ لها في حلب وتأثيرها على النظام، ثم قال «ظفر واحد منكم يساوي عندي كل حلب».
لكن المدينة التي تمتد على مساحة واسعة، يغلب الأصل الريفي على أكثر من نصفها. فحي صلاح الدين غالبية قاطنيه من أصول ريفية من إدلب وريف حلب القريب. الأمر نفسه يتكرر في طريق الباب حيث غالبيتهم أصول من الأرياف الشمالية وكذلك هنانو وغيرها. ورغم ذلك فالمزاج العام يشعر هؤلاء بهوية «مدينية» وتمايز عن الريف الأصلي، وبالأسى مما وصلت إليه الأزمة.
انقلاب مزاج المعارضين أمر يمكن ملاحظته في حديث رامي، وهو معارض كان يؤيد الجيش الحر. يقول رامي: «ليتهم لم يحرروا حلب. إنهم خربوها، التظاهر كان يمرّ أياماً كثيرة من دون أي شهيد. وفي الحقيقة هم أصلاً سبب الاشتباكات مع الأمن».
ما يثير القلق لدى رامي هو أن «الكثيرين أصبحوا ينتقدون الجيش الحر علناً، وبالأخص بعد قتل الناشط أبو العبد الحمصي (محمد الخالد)، الذي كان ينتقد ممارسات الجيش الحر اللصوصية والتشبيحية». وهؤلاء يقولون أيضاً «إن الجيش الحر تبين أنه مجرم وفاسد مثل النظام، ويضيفون وهنا الخطورة - أملنا هو جبهة النصرة».

فزعة عشائرية

فاضل الكواكبي، مخرج سينمائي، يرى أن حركة الاحتجاج «بدأت ريفية الطابع تحمل قيم تقليدية الفزعة والتضامن المناطقي، وهي قيم غير ديموقراطية ولا تنتمي إلى الحداثة المدنية والحرية والمواطنة ودولة القانون». وأوضح أن حساسية الريف والمدينة تعاظمت؛ لأن الريف زود المدينة بكوادر للإدارات العامة والوظائف، وحصلت هجرة كبيرة. ورغم ذلك، فالمناطق التي حظيت برعاية البعث أكثر من غيرها هي التي خرجت منها الحركة المناوئة له، بعدما تشبعت بالثقافة الدينية التي حلت محل الفكر القومي والعلماني.
أما محمد غزال، وهو باحث اقتصادي، فيتفق مع الآخرين في مقاربة البعد الأصولي للاحتجاج في الريف، لكنه ينتقد العصبية المدينية الحلبية لدى بعض الشرائح فيها، التي تعاملت تاريخياً بفوقية مع الريفيين، وناصبت العداء كل خطوات حزب البعث لتذويب الفوارق بين المدينة والريف.
أحد المثقفين السوريين المعارضين، يرى أن حكم البعث اعتمد على «رعاع الريف وحثالة المدن لحكم سوريا وتدمير الثقافة المدينية الحداثية التي سادت في الخمسينيات». المفارقة اليوم هي في تحالف المثقف المذكور وحاملي مقاربته مع من يمكن أن ينطبق عليهم ذلك المصطلح.
يقول غسان، وهو فنان مسرحي: «البعث بوجهه الشمولي أدخل ثقافة حداثية إلى المجتمع السوري، اليوم نرى مدارس البعث تحولت إلى تكايا وكتاتيب طالبانية، لم يعد هنالك موسيقى وغناء ورياضة، بل ترويج ثقافة غيبية تلقينية تمسخ العقل وتصادر الطفولة».
وهو ما يوافقه عليه هاني عبد القادر بقوله: «من اعترض على شمولية البعث الحداثية هو اليوم يصمت صمت القبور عن ترويج القيم الطالبانية في المجتمع السوري». وأضاف: «إنّ من يشاهد المناطق التي سيطرت عليها السلفية الجهادية التي أنكر المثقفون وجودها وحضورها الفاعل في التظاهرات، يقول: هل حقاً نحن في سوريا أم في تورا بورا؟».
ضمن هذا السياق، يرى الأستاذ الجامعي نضال الصالح، أن حقداً غريباً على المدينة يقف خلف استباحة المسلحين لها. ورأى أن «حلب تدفع ثمن موقف عقلاني وطني». وأضاف: «أرفض تسمية ثورة ريفية على المدينة، بل ما يجري هو حالة ظلامية الريف بريء منها قبل المدينة المستباحة بقيمها وتراثها وتاريخها الرائع».

أزمة من رحم أزمة

حكمت بيازيد شدد على استعادة أزمة عام 1980 والبعد الإقليمي للأزمة، مشيراً إلى أن «ما جرى في سوريا أخيراً شبيه بما جرى فيها بعد الفورة النفطية؛ فعشرات ألوف النخب العلمية والمهنية السورية هاجرت إلى السعودية، وعادت بقيم مختلفة. فالمرأة السورية تحولت إلى النقاب والبرقع، وقيم المواطنة وقبول الآخر تحولت إلى إقصاء وتكفير».
وأضاف: «بلغ الأمر ذروته في عام 1980 بتحريك الدول الإقليمية لقوى سياسية معارضة وتمويلها بغية الضغط على سوريا في ملف الصراع مع إسرائيل. تلك وقائع منسيّة اليوم في السجال السوري، ويجب إعادة مناقشتها مع الرأي العام الوطني. فأعداء سوريا يكررون هجومهم، وإن كان بأدوات أكثر تطوراً وإجراماً».
من جهته، رأى وحيد سيريس أنه بعكس أزمة الثمانينيات، التي كان لجماعة الإخوان المسلمين قاعدة شعبية في مدينة حلب أضعاف ما لديها في الريف، اليوم ما يختلف هو نسبة التأييد للجماعة حيث أصبحت شعبيتها في المدينة منخفضة جداً قياساً بالريف وقياساً بالأزمة السابقة.
ويرى بسام حسين أن نزعة الانتقام والثأر من الماضي أضرت بمسار حركة الاحتجاج الشعبية. وأوضح أنه «بعد أسابيع من التظاهر، ظهر خطاب جديد يرى أن المعركة مع النظام هي استكمال لمعركة الإخوان معه، هنا كان مقتل الانتفاضة الشعبية، إذ عمقت فرزاً أهلياً بين السوريين، وتعاظمت الشكوك في مآلات إسقاط النظام، وسوريا كلها بعد 20 شهراً تدفع ثمن هذا الانحراف».



اختلال التوزع السكاني

يبلغ عدد سكان حلب نحو 6 ملايين نسمة يقطن منهم نحو 2.5 مليون نسمة في المدينة والباقون في مناطقها الريفية. التوزع السكاني اختلّ كثيراً بعد انتقال الصراع المسلح إلى المحافظة؛ فمناطق كثيرة شهدت نزوحاً سكانياً إلى مناطق أكثر أمناً. كذلك أُفرغت مناطق عديدة من الريف من سكانها، الذين نزحوا في معظمها إلى الشمال، وخصوصاً إلى تركيا.
في مناطقها الجنوبية والشرقية ترتفع نسبة المؤيدين، فيما تقل في شمالها وغربها. أصيب اقتصاد المدينة بضربة قاصمة، حيث توقفت عجلة الإنتاج بنحو شبه كلي، وخصوصاً مع توقف المصانع عن العمل، ولا سيما أن غالبية عمالها يأتون من الريف.
وحلب أكثر محافظة سورية تتميز بفروقات كبيرة بين المدينة والريف. فالبذخ والغنى والتطور الهائل في المدينة يقابله تدنٍّ في نسبة التعليم ومساكن طينية في ريف مجاور لا يبعد بالسيارة أكثر من ربع ساعة. والمفارقة أن هذا الريف ترتفع فيه نسبة المؤيدين قياساً بالريف الغني المتمدن.