البارد والبداوي | خيمت ترددات الجولة الرابعة عشرة من الاشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن على مجمل الواقع الشمالي. الاشتباكات كانت مسبوقة بخبر فقدان بضعة عشر شاباً بكمين في تلكلخ السورية، والشبان المفقودون من مناطق مختلفة من عكار وطرابلس. لم يسلم مخيما البارد والبداوي من ترددات الحدث. فمن جهة، أحد الشبان القتلى من مخيم البارد، ومن جهة أخرى طاولت القذائف المتبادلة مخيم البداوي، فسقطت إحداها، خلال أعنف المعارك، على منزل أسرة الكايد في الطبقة الثالثة، أصيب صالون المنزل بأضرار، بينما كان يختبئ أفراد الأسرة في غرفة أخرى. وسقطت قذيفة أخرى فوق عيادة الأونروا، ما أدى إلى تكسير زجاج العيادة، كما انفجرت عدة قذائف في الهواء فوق المدخل الجنوبي للمخيم على حد وصف أحد أبناء المخيم، الذي أضاف أن الأمطار الغزيرة المنهمرة في إحدى أكثر الليالي سخونة حالت دون وقوع إصابات رغم كثافة الرصاص الطائش.قبل الجولة الأخيرة من الاشتباكات، حرك الانتصاران، العسكري في غزة والدبلوماسي في الأمم المتحدة، بعض المياه الراكدة في حياة أهالي البارد والبداوي. ردّد المخيمان صدى الانتصارين كل على طريقته لأيام معدودة. وفي الأيام التالية، لبس نصر غزة العسكري، كما النصر الدبلوماسي رتابته التقليدية، مسيرة «حاشدة» تدعو إليها حركة حماس هنا، وأخرى تدعو إليها فتح هناك. وسرعان ما استفاق ابن البداوي على ضيق في حياته اليومية، يبلغ حدّ الاختناق، ليس أقله الغرق في وحول الطرقات، وكأنه في قرية نائية لم تصل بعد إليها الخدمات العامة الأساسية. وبطء عودة البارد إلى حياته الطبيعية قبل تدميره، لا يزال يلقي على الفلسطيني بتبعات يومية تحرف تفكيره عن الاهتمام بفلسطين، ليتخبط بمنغصات المتطلبات المعيشية الملحّة.
رسمياً، ما انفك قادة الفصائل واللجان الشعبية في البارد والبداوي يكررون معزوفة النأي بالنفس عن المشاكل اللبنانية. في مخيم البارد صرّح والد المفقود في كمين تلكلخ، قائلاً: «في يوم الأربعاء 18/11/2012 خرج ابني محمد أحمد الحاج من البيت متوجهاً إلى جامعته، ولم يعد إلى الآن، وقد فاجأنا ظهور اسمه وصورته على وسائل الإعلام ضمن مجموعة تلكلخ، علماً بأن جميع الصور المعروضة له مأخوذة من صفحته على الفايسبوك. لذلك فإننا نطالب بالكشف عن ملابسات اختفائه وظروفه، وجلاء الأمور، والوصول إلى الحقيقة».
والد المفقود رجل دين وإمام أحد مساجد البارد، يُعرف عن الوالد استنكاره لما يجري من أحداث في سوريا، ومع ذلك يُعرف أيضاً أن الخطاب الديني يسود مخيم البارد، يغذيه انعدام الأمل بالخروج من تداعيات تدمير المخيم. فقد احتل رجال الدين مساحة أوسع في عقول شبيبة المخيم على حساب قادة الفصائل واللجان الشعبية، وخصوصاً بعد سنوات من اقتصار المعالجات في المخيم على الجانب الأمني. وفي السياق، بدا مقتل الشاب محمد الحاج موضع اعتزاز لدى شريحة من شبان المخيم، فجاء إعلان وفاته على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي باعتباره «بطلاً استشهد على أيدي الشبيحة».
وفي البداوي لا ينفي أحد أبناء المخيم تقلب المزاج الفلسطيني بين دفتي أطراف الصراع، ورغم أن المتحدث يرى صعوبة عزل المخيمين عن محيطهما الطرابلسي والعكاري اللذين تجتاحهما «العاطفة الدينية»، إلا أنه يتساءل: «أين كانت تلك العاطفة يوم دُمر مخيم البارد عن بكرة أبيه؟».