حلب | لم يعد لمعركة حلب وهجها. المعركة، التي وصفت بأنها الحاسمة لإسقاط النظام السوري، استمرت دون قدرة أيّ طرف من الأطراف على تغيير الواقع الذي ارتسم في الأيام الأولى لدخول الميليشيات المدينة. إلّا أنّ التشكيلات «المدنية» التي يحاول مقاتلو الميليشيات تكوينها أصبحت مثار قلق إضافي للحلبيين، الذين تلاحقهم أزمة الخبز، والوقود، وفقدان الأمن، والموت العبثي. أهل حلب صدموا بإنشاء ما سمّي أمن الثورة أو «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، والبدء بتسيير دوريات بعضها من المقاتلين العرب لإجبار المواطنين على أداء الصلاة. قنوات الإعلام العربي، التي تصفها السلطات السورية بـ«قنوات سفك الدم السوري»، لم تذكر يوماً أنّ وحدات حفظ النظام فرّقت المتظاهرين بالهراوات، أو خراطيم المياه، أو الغاز المسيل للدموع، بل حصراً عبر «إطلاق النار على صدور المتظاهرين العزل». الهراوة ستبقى الرمز المعبّر عن قساوة أيّ سلطة في الشارع، التي تحولت إلى عصا المطاوع ورشاشه بـ«النسخة السورية»؛ إذ يسعى إلى إجبار الناس على إغلاق متاجرهم والتوجه إلى المساجد لأداء الصلاة.

الانقلاب

مطاوع اليوم الذي كان يهتف بالأمس «الله سوريا حرية وبس» ترك أمر قمع التظاهرات المندّدة بممارسات الجيش الحر لرصاص «مقاتلي الحرية»، واتخذ لنفسه مهمة إجبار المواطنين على الصلاة، وإغلاق المحال التجارية أثناء فترات الصلاة، والبحث عن النساء اللواتي يقدن السيارات لمنعهن من ارتكاب هذه «المعصية».
شُغل الرأي العام في حلب بإعلان تشكيل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في ريف المحافظة، في مدينة الباب تحديداً. المعارضون سارعوا إلى إنكار الأمر في البداية، معتبرين أنّ الصورة المنشورة لمقر الهيئة مفبركة من قبل المؤيدين لتشويه الثورة، وأنّها مأخوذة عن مقرّ للهيئة في السعودية، فيما ردّ المؤيدون بنشر صور أخرى من زوايا مختلفة للمقر المذكور، مع اسم الخطاط الذي خطّ لوحة التعريف، وزعيم المجموعة المسلحة الذي أمر بخطّها. وفي اليوم التالي، أصدر «المجلس العسكري الثوري» في حلب بياناً حرّم فيه قيادة المرأة للسيارة تحت طائلة العقوبة، في وقت بثّت فيه مقاطع فيديو تُظهر شباناً من جنسيات عربية يقومون بدوريات لإجبار الناس على أداء الصلاة في مشهد لا يمكن رؤيته إلا في المملكة العربية السعودية. وقبل أيام بثّ ناشطون معارضون على موقع «يوتيوب» تسجيلاً مصوراً يظهر أحد المطاوعة السعوديين، عبد الله الهاضل، العضو السابق في هيئة الجنادرية في الرياض، وفق تقارير إعلامية، أثناء عمل الهيئة للتنبيه إلى صلاة العصر في إحدى مناطق ريف حلب. ويظهر الهاضل في تسجيل الفيديو راكباً سيارة «بيك أب» بلا لوحة، مسروقة من إحدى مؤسسات الرسمية، يحمل رشاشاً حربياً وهو يدعو الناس في الشوارع إلى الصلاة.
الهيئة، التي شكّلت، أوكلت إليها مهمات حفظ الأمن من تجاوزات المقاتلين والتحقيق في السرقات المنسوبة إليهم، وينظر إليها بعض السكان بإيجابية.
محمد النجار، وهو أحد سكان الباب، قال: «لقد حصلت تجاوزات مسيئة من قبل بعض عناصر الجيش الحر، والهيئة ستمنعهم وستعاقب المتورطين وباب الشكوى مفتوح لأيّ إنسان، ولا يجب الحكم على الأمر قبل تجربته».

غضب نسائي

التطورات الأخيرة أثارت غضباً نسائياً واسعاً في المدينة. المواطنة ميس عمر قالت إنّ «هذا المآل البالغ السوداوية لثورة قالت إنها قامت لأجل الحرية يدفعنا إلى التمسك أكثر بمؤسسة الجيش الوطني، وبالنموذج السوري للحريات الاجتماعية والفردية. كان ينقصنا حرّيات سياسية أوسع، فقضموا لنا الحريات الاجتماعية والفردية الموجودة». وتساءلت زينة علبي: «هل حقاً سينتشر المطاوعة في حلب لمنعنا من قيادة السيارات، بعدما أحرقوا لنا المعامل ونهبوا الأسواق وقتلوا الجنود. آن الأوان لصحوة وطنية سورية في وجه هذه القباحة».
بدوره يلفت مؤسس «مرصد نساء سوريا»، بسام القاضي، إلى أنّ «هذا الأمر هو مجرّد إفصاح جديد عن الطبيعة الحقيقية للثورة السورية، بصفتها حركة إرهابية انقلابية جوهرها إقامة الدولة الفاشية الدينية على أساس مشترك ما بين الإخوان المسلمين والوهابيين والقاعدة». ورأى القاضي، الذي سجن سبع سنوات في معتقلات النظام، أنّ «واجب الجميع الوقوف مع الجيش العربي السوري في معركته ضد هؤلاء الإرهابيين؛ فهؤلاء يحاولون فرض أجندتهم بقوة السلاح، لا بأيّ شكل آخر». وطالب «بفضحهم في كل مكان وتبيان حقيقة معاداتهم الجذرية للمواطنة وحقوق الإنسان عموماً، وحقوق المرأة خصوصاً. فهم أصلاً لا يرون في المرأة إلا وعاءً جنسياً لتفريغ متعتهم، ولإنجاب ذكور يحملون رايتهم في الفكر الأصولي المنحطّ». بدورها، رأت ميس العمر أنّ «الأقنعة كلها سقطت، وليس الأمر مجرّد انحراف طرأ. كنا نحذّر لأننا نعرف هؤلاء الأشخاص وفكرهم المتطرف». وتساءلت: «هل تقبل تركيا التي تدعم تلك الجماعات عسكرياً وتوفّر لها المعسكرات للتدريب والتجمّع والانطلاق نحو الأراضي السورية أن تنشر فكرها بقوة السلاح في الأراضي التركية؟».
الخشية من تطوّر عمل الهيئة إلى تطبيق متعسف لأحكام الشريعة بالجلد وقطع الأيدي أو الرجم قوبل بسخرية عند البعض؛ فحازم موصللي رأى أنّه «لا حاجة للجلد أو قطع الأيدي؛ فالعقوبة الوحيدة لدى الجيش الحر هي القتل، لكن التدرج هو في شدته ذبح بالسكين أو رمي بالرصاص».

العلمانيون

لعلّها مفارقة عجائبية أن تنتهي صيحات الحرية، التي أطلقتها حناجر الشبّان السوريين الخارجين من المساجد، إلى تحويل هراوات الاستخبارات وعناصر حفظ النظام إلى عصي وسياط مطاوعة يجوبون الشوارع لإجبار المواطنين على أداء الصلاة.
الخطوة التي قوبلت بتشكيك من العلمانيين المؤيدين للثورة، واعتبارها «فبركة متقنة من الأمن والمؤيدين»، تبيّن أنها صحيحة، وتلتها شرائط مسجّلة لشبان عرب وسوريين لاقت استياء أوساط المؤيدين وبعض المعارضين واستهجانهم.
معارض علماني، رفض ذكر اسمه، رأى أنّ القرار «إهانة كبيرة وسلوك عنصري إجرامي بحقّ المرأة السورية، التي تقود الطائرات المدنية منذ سنوات طويلة، ودخلت ميادين كانت وقفاً على الرجال، ومنها الجيش والقضاء».
وحاول آخرون التقليل من شأنه باعتباره «صادراً عن هيئة غير منتخبة ولا تمثّل الثورة السورية، وهي حالة استفادة من الفوضى التي سببها النظام المتعنت».
واستنكرت صفاء معراوي القمع الذكوري باسم الحرية. «في السعودية تتظاهر النساء من أجل حقّ قيادة السيارة، ويأتي في سوريا من يريد حرمان المرأة السورية هذا الأمر البديهي، وهي التي خرجت في التظاهرات من أجل الحرية، في وقت كان فيه الأصوليون يسخرون من قدرة التظاهر على إحداث التغيير»، تقول.
كذلك حمّلت النظام المسوؤلية عن ذلك؛ لأنّه «قمع التيارات العلمانية وبنى آلاف المساجد، وزجّ العلمانيين في السجون في بداية أول الثورة، وترك المجال للإسلاميين ليخيف المجتمع بهم».

«الهيئة» في صلب الثورة

في المقلب الآخر، لا يجد «أبو عبيدة السراقبي»، وهو طالب جامعي، حرجاً في تأكيد أنّ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في صلب ثورة الحرية، التي تعني أنّ الغالبية الإسلامية المحافظة يحقّ لها أن تفرض رؤيتها على المجتمع، ما دامت هي الأكثرية، وتدين بدين الحق».
الطالب الجامعي الذي يقول إنّه اضطر إلى حمل السلاح «دفاعاً عن حقّ المتظاهرين في حرية التظاهر السلمي»، يعتقد أنّ «المجتمع السوري سيجد صعوبة في تقبّل المطاوعة في البداية كما حصل مع أشقائنا السعوديين قبل قرن من الزمان، لكنّهم سيدركون مع الوقت كم أنّ الأمر يعني تجسيداً للإسلام الحق العادل».
بدوره، رأى سالم، المؤيد للجيش الحر، أنّ «إعلام النظام يضخّم من شأن المطاوعة، وهي ظاهرة محلية ثانوية جداً بالقياس إلى جسم الثورة المدنية السلمية، وهي مرتبطة بظاهرة السلاح والشعب السوري لن يقبل المطاوعة بعد إسقاط النظام». وأضاف: «يجب ألا ينزعج أحد من المطاوعة، بالأخصّ لأنهم من شريحة قاومت ظلم النظام، ومشهود لها بالأخلاق الدينية الرفيعة، وهي لا تفرض على الناس إلا ما تفرضه على نفسها».
من جهته، قال سامر عثمان إنّ «هيئة الأمر بالمعروف مختصّة بملاحقة المجرمين واللصوص وشاربي الخمور، والتركيز على مسألة منع النساء من قيادة السيارات هو للتغطية على إيجابياتها».



80 متطوعاً بإمرة أبو إسلام

في ثكنة انتزعها مقاتلو المعارضة في مدينة الباب في حلب، يستقبل أبو إسلام، الذي يقود شرطة جديدة تمّ تشكيلها، المواطنين الذين يتهمون المقاتلين بممارسة الترهيب والسلب والتخريب. وفي هذه المدينة، بات بإمكان السكان اللجوء إلى 80 متطوعاً يشكّلون «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». مهمة هؤلاء وضع حد للتجاوزات التي يرتكبها المقاتلون، ولا سيما السرقات أو الأضرار التي يرى السكان أنّها تحلّ بالممتلكات.
ويشير أبو إسلام إلى أنّ تأسيس هذه الشرطة الجديدة، في منتصف تشرين الثاني الماضي، جرى «بعد الحديث مع كل الكتائب المقاتلة في الباب». ويوضح أنّه «قررنا تجنيد متطوعين لا يقدمون أنفسهم كعسكريين، بل كأفراد في المجتمع المدني».
(أ ف ب)