اعتاد الفلسطينيون في لبنان على مخيماتهم. اعتادوا العيش في الأزقة الضيقة. أحياء يحتاج الدخول الى بعضها السير «جنابياً». أجساد ابناء مخيمات لبنان أغلبها مصاب بالحساسية لقلة وصول اشعة الشمس الى بيوتهم. فالمنازل هنا متلاصقة و«الحيط ع الحيط»، وكل ما يقوله جيرانك تستطيع سماعه بسهولة. كل هذه الحالات سيعيشها الهاربون من مخيم اليرموك الى مخيمات لبنان. وهنا سيدركون معنى اللجوء الاصلي، وهنا سيعرفون كيف يكون الشكل الحقيقي للمخيم. إذ إن مخيم اليرموك بشوارعه الواسعة، والذي يعيش فيه ما يقارب 800 الف لاجئ فلسطيني، ليس مخيماً. فهو مدينة صغيرة يعيش فيها الفلسطينيون والسوريون معاً. كما ان اليرموك غير محاصر بجدران باطون مثل اغلب مخيمات لبنان. اما ربط لفظ «المخيم» باسمه فهو فقط للدلالة على اللجوء وللتذكير بحق العودة.
على الصعيد الاجتماعي، سيدرك الهاربون من سوريا معنى عدم الحصول على حقوق مدنية واجتماعية. اذ ان الرئيس السوري الراحل، شكري القوتلي، سنّ قوانين تعتبر الفلسطينيين في سوريا مثل السوريين. اما في لبنان فإن القوانين التي سنّت حرمت الفلسطينيين من كل شيء الا حق التنفس... ربما.
يوماً بعد يوم يزداد عدد الهاربين من النار السورية التي حرقت مخيم اليرموك. اذ تقول مصادر في الامن العام إن المعابر الحدودية، وخصوصاً نقطة المصنع، تشهد يومياً تدفق ما يقارب 2000 لاجئ فلسطيني. هذا العدد مرجح للازدياد يومياً وذلك بحسب حدة المعارك التي يشهدها المخيم. فقد ترك نصف ابناء اليرموك، بالاضافة إلى النازحين السوريين فيه، أماكن سكنهم وهربوا الى محيطه، مخيمي التضامن وفلسطين، بينما قرر جزء آخر اللجوء الى لبنان. هؤلاء دخلوا لبنان لكنهم لا يزالون في مخيمات الاطراف، ولم تصل غالبيتهم الى مخيمات العاصمة او الجنوب. وتمركزهم الرئيسي حالياً هو في منطقة البقاع وفي مخيمي البداوي ونهر البارد، على ان ينتقل الوافدون الجدد الى مخيمات صيدا وصور وبيروت.
لا تكمن أزمة اللجوء الجديدة فقط في ارتفاع الكثافة السكانية في المخيمات التي هي في الاصل مرتفعة. فازدياد عدد النازحين سيسبب أزمة اجتماعية واقتصادية بالاضافة الى زيادة التوتر السياسي الذي بدأ يظهر في مخيمات لبنان. هكذا، يمكن لمن يسير في المخيم ان يشعر بالتوتر الذي يملأ فضاءه. وعند سؤال أي شخص عن رأيه بما جرى في اليرموك في اليومين الماضيين تأتيك الاجابة، إما شتيمة للنظام او للجبهة الشعبية القيادة العامة، أو الصمت مع رفض الحديث بالسياسة. لكن برغم من كل هذا هناك فئة قليلة ألقت باللوم كله على المعارضة المسلحة التي سيطرت على المخيم وادخلته في الازمة السورية الداخلية «غصباً عنه»، كما يقول البعض.
ففي مخيم برج البراجنة، وبالقرب من مراكز القيادة العامة، ارتفعت صور كبيرة وكثيرة للرئيس السوري بشار الاسد. هذه الصور استفزت الفصائل الموجودة هناك، وخصوصاً في ظل الانقسام الموجود بينها حول الازمة السورية. فاتفق مسؤولو اللجان الشعبية على منع رفع صور او الشعارات المؤيدة او الرافضة للنظام السوري. لكن هذا الاتفاق لم تلتزم به القيادة العامة. هذه الحوادث الصغيرة زادت من حال التوتر بين المؤيدين للقيادة العامة والرافضين لها. اما على الصعيد السياسي فان التواصل بين الفصائل لا يزال على حاله، ولم يتأثر بما يجري في الشام او في المخيمات. ويقول مسؤول رفيع المستوى في تحالف القوى إن سيطرة المعارضة على مخيم اليرموك تمت من خلال خداع اللجان الشعبية التي استقبلت عناصر اعتقدوا انها ستساعدهم في الدفاع عن المخيم ضد الجيش الحر، لكنه تبين أنهم ينتمون الى المعارضة السورية. وبعد هرب غالبية سكان المخيم ولجوئهم الى لبنان، تجري حالياً وساطات داخل المخيم بين الجيش الحر والنظامي من قبل بعض مسؤولي الفصائل لتجنيب المخيم الدمار. اذ تطالب المعارضة المسلحة باستخدام المخيم ممراً لها، بينما يطالب الجيش السوري بالخروج من المخيم لتجنيبه القصف.
اما في لبنان وعلى الصعيد الانساني، فإن المنظمات المعنية باللاجئين الفلسطينيين اي الاونروا، تواجه ازمة في ازدياد اعدادهم في المخيمات. فالوكالة الاممية كانت في الاصل تعاني من عجز في ميزانيتها العامة المتعلقة بمساعدة الفلسطينيين في لبنان، فكيف الحال بها الان وهي ترصد يومياً تدفق ما يقارب الفي لاجئ اضافي الى منطقة عملها.
من جهته، يقول مسؤول كبير في الأونروا ان الوكالة «كانت قد اعدت دراسة عن وضع النازحين الفلسطينيين الى لبنان فتبين أن الوكالة بحاجة الى ما يقارب مليوني دولار لمساعدتهم، ولم يصل من المبلغ سوى 500 الف دولار تقريباً». يضيف الرجل ان التركيز الآن ينصب على «البقاع لأن موجة البرد القارس تساهم في زيادة الازمة». وقد قامت الاونروا في اليومين الماضيين بتوزيع مبلغ 50$ على العائلات النازحة في مخيمات البقاع لشراء ملابس. كما ستقوم الوكالة بحملة من أجل توزيع المازوت على سكان مخيمات البقاع الغربي والاوسط. اما في بيروت، فيتوقع ان يصل عدد النازحين في الاشهر المقبلة الى 20 الف لاجئ فلسطيني. هذا الرقم المخيف سيساهم في الازمة السياسية اللبنانية. وتقول مصادر في منظمة التحرير الفلسطينية إن التصريحات التي صدرت عن حزب الكتائب تظهر ان المرحلة المقبلة ستكون للهجوم على النازحين الى لبنان.
من جهتها، سهلت مديرية الامن العام غالبية حركة نزوح الهاربين من مخيم اليرموك، ولم تعرقل الدخول كما حصل خلال موجات النزوح الاولى.
تتحضر المخيمات الفلسطينية نفسها للاستقبال النازحين الجدد. الاهالي دعوا عبر مكبرات الصوت ومواقع التواصل الاجتماعي الى عدم استغلال الزوار وعدم تأجيرهم البيوت بمبالغ مرتفعة. اما الاونروا فتؤكد انها لن تفتح المدارس لاستقبال هؤلاء كي لا يضيع العام الدراسي على الطلاب. اما باقي ما تبقى من الخدمات التي تقدمها الوكالة فيمكن النازحين الاستفادة منها. هكذا، سيكون الفلسطينيون كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. واليوم الجسد الفلسطيني تداعى لاحتضان الزائرين الجدد، و«اليوم كلنا فلسطينيون من غير سوء»، كما يقول محمود درويش.