الجزائر | لم تحظ زيارة رئيس أي دولة للجزائر بالقدر الذي حظيت به الزيارة التي يقوم بها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اليوم وغداً. وتؤكد كل المؤشرات أن الترتيبات تجاوزت لدى السلطات الرسمية، الاهتمام بزيارات الزعيم جمال عبد الناصر في الستينيات، وجوزيف بروز تيتو، في السبعينيات والملكة اليزابيث الثانية في بداية الثمانينيات، بالنظر لبرنامج الزيارة الثري وتطلعات الجانبين لنتائجها. فمنذ أكثر من شهر كانت الزيارة على رأس اهتمامات عشرات المؤسسات الجزائرية التي أشرفت على التحضير المادي والسياسي في كل من العاصمة الجزائر وتلمسان. وخصصت كل الصحف اليومية الصادرة في الجزائر، وعددها يتجاوز السبعين، طيلة هذه المدة مكانة بارزة للحدث إن من خلال معالجة ما سينجم عنه من منافع مشتركة أو بالنقد، والتركيز على اختلال التوازن في المواقع الذي سيؤدي حسب البعض الى اختلال في المنفعة التي يجنيها كل طرف. الاعلام الرسمي نقل تصريحات عن مسؤولين أعطت الانطباع أن الزيارة ستكون نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين في كل الميادين. وتحاشت هذه التصريحات في الغالب الحديث عن الأمور الخلافية التقليدية، التي ستبقى على الأرجح عالقة لمدة طويلة بفعل اختلاف الرؤى والمقاربة لتناول الماضي المرير بين البلدين.
رئيس الوزراء، عبد المالك سلال، لم يتردد في القول أول من أمس، «إن الجزائر تأمل أن تكون زيارة الرئيس فرانسوا هولاند فرصة لبناء علاقة مع فرنسا تنظر بعزم نحو المستقبل وخالية من المفاهيم البالية»، في اشارة إلى تنازل بلاده عن شرط الاعتذار عن جرائم الاستعمار لترقية العلاقات.
هذا الاتجاه ذاته ردده أكثر من مسؤول فرنسي في الأسابيع الأخيرة تمهيداً لتحييد الجوانب التاريخية حتى تؤتي الزيارة أكلها. وبحسب ما رشح من معلومات، فإن المحادثات متعددة الأوجه وورش العمل بين المسؤولين الجزائريين والفرنسيين ستتركز على الجوانب الاقتصادية، ولا سيما تعزيز الاستثمار الفرنسي ونقل خبرة الادارة، فضلاً عن رسم خارطة التزام جزائري بضمان الطاقة لفرنسا للعقود المقبلة. كما تتضمن المحادثات جوانب ترسيخ التعاون الثقافي وضمان مكانة اللغة الفرنسية في الجزائر وتطوير آليات التنسيق القضائي وتوفير فضاءات للتكفل بالشباب.
ويأمل فرانسوا هولاند والفريق الحاكم في باريس تحقيق ما عجز عنه فرانسوا ميتران عام 1984 وجاك شيراك عام 2003 حين فشلا في كسب «معركة الغاز» الجزائري. فكلاهما عرض في وقته شراكة استراتيجية طويلة الأمد بين شركة «سونطراك» النفطية الجزائرية و«غاز دو فرانس»، لتوفير مصدر دائم وموثوق للطاقة في فرنسا، يبعد عنها شبح أزمات الطاقة. ويبدو أن هولاند حضّر جيداً لهذه المعركة، وربما كسبها بأقل ثمن، أخذاً بالاعتبار التصريحات السخية من الجانب الجزائري. وأهمها ما جاء على لسان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في حوار لوكالة الأنباء الفرنسية الاسبوع الماضي، حين التزم شخصياً بتوفير كل شروط تحقيق الزيارة لأهدافها ووضع خارطة طريق للعلاقة الاستثنائية بين البلدين. ومما قاله «نريد علاقة استراتيجية ومتينة مع فرنسا». من جهتها، أعطت السلطات الفرنسية إشارات حسن نية حول رغبتها بمعالجة بعض القضايا الثنائية العالقة من خلال العودة لمناقشة اتفاقيات 1968 التي تمنح الجزائريين المقيمين بفرنسا امتيازات استثنائية على باقي الأجانب. ولتحقيق هذه المساعي، يرافق الرئيس هولاند وفد كبير من الوزراء والمستشارين ورؤساء الشركات والبنوك الكبرى ورجال الاعمال. وأفادت مصادر سياسية وإعلامية بأن المحادثات التي سيجريها الوفد الفرنسي ستتناول مشاريع لعشرات من الاتفاقيات وبروتوكولات تعاون تجري مناقشتها وصياغتها النهائية لاحقاً وتوقع تباعاً في العاصمتين.
وسيلقي هولاند خطاباً في البرلمان بحضور نواب الغرفتين وأعضاء الحكومة وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، يُفترض أن يتناول فيه اتفاق البلدين على المضي قدماً لتحقيق مستقبل مشترك بعيداً عن أسباب التوتر والخلاف. وفضلاً عن الجانب التاريخي أو ما يسمى «ملف الذاكرة»، يختلف البلدان حول جملة من المسائل الأخرى أولاها قضية الصحراء الغربية، نظراً لتبني فرنسا الموقف المغربي المطالب بإلحاق الاقليم بالمملكة. الموضوع الخلافي الآخر يتعلق بمعالجة التهاب الوضع في شمال مالي، حيث تستعجل فرنسا الحل العسكري فيما تريد الجزائر اعطاء فرصة للمفاوضات. ويبدو أن الطرفين تمكنا من تحييد الموضوعين عن جدول أعمال الزيارة رغم بقاء كل منهما على موقفه في المحافل الاقليمية والدولية.
يذكر أن زيارة هولاند هي السابعة لرئيس فرنسي الى الجزائر. فلقد كانت الأولى من جيسكار ديستان عام 1975 بعد ثلاثة عشر عاماً من استقلال الجزائر، تلتها زيارة فرانسوا ميتران للجزائر في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد ثلاث مرات. وزار جاك شيراك الجزائر عام 2003 وتوصل إلى اتفاق مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على توقيع اتفاقية صداقة وتعاون وحسن جوار. وكان مفترضاً أن توقع خريف عام 2005، لكن اصدار البرلمان الفرنسي قانون «تمجيد الاستعمار» في شباط من نفس العام، أدى الى توتر العلاقات وقرار الجزائر التخلي عن الاتفاقية.
أما في العام 2007، فزار نيكولا ساركوزي الجزائر وانتقل الى قسنطينة حيث ألقى محاضرة بجامعتها، فيما سيلقي هولاند محاضرة بجامعة تلمسان من حيث ينحدر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. وينتظر أن يصطدم فيها بالطلاب المهتمين بالشأن التاريخي. ولا يستبعد أن «يرتجل» كلاماً من خارج جدول اعمال الزيارة لارضاء الطلاب دون أن يصل ذلك إلى الاعتراف بتحمل الدولة الفرنسية أعباء ما حدث خلال 132 عاماً من احتلال الجزائر.